كتاب الله؛ لقوله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[الأنعام: ٣٨]، وقوله:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة: ٣]، فعَلِم أن الله تعالى أكمل دينه، فأمِن الضلال على الأمة، وأراد الترفيه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فكان عمر -رضي الله عنه- أفقه من ابن عباس وموافقيه.
قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقيّ -رحمه الله- في أواخر كتابه "دلائل النبوة": إنما قَصَد عمر -رضي الله عنه- التخفيف على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين غلبه الوجع، ولو كان مراده -صلى الله عليه وسلم- أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركه لاختلافهم، ولا لغيره؛ لقوله تعالى:{بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}[المائدة: ٦٧]، كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه، ومعاداة من عاداه، وكما أَمَر في تلك الحال بإخراج اليهود من جزيرة العرب، وغير ذلك، مما ذكره في الحديث.
قال البيهقيّ: وقد حَكَى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أنه -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر -رضي الله عنه-، ثم ترك ذلك اعتمادًا على ما عَلِمه من تقدير الله تعالى ذلك كما هَمّ بالكتاب في أول مرضه حين قال:"وارأساه"، ثم ترك الكتاب، وقال:"يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر"، ثم نبّه أمته على استخلاف أبي بكر بتقديمه إياه في الصلاة، قال البيهقيّ: وإن كان المراد بيانَ أحكام الدين، ورفع الخلاف فيها، فقد عَلِم عمر -رضي الله عنه- حصول ذلك؛ لقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، وعلم أنه لا تقع واقعة إلى يوم القيامة إلا وفي الكتاب، أو السُّنَّة بيانها نصًّا، أو دلالةً، وفي تكلف النبيّ -صلى الله عليه وسلم- في مرضه مع شدة وجعه كتابةَ ذلك مشقة، ورأى عمر -رضي الله عنه- الاقتصار على ما سبق بيانه إياه نصّا، أو دلالةً؛ تخفيفًا عليه، ولئلا ينسدّ باب الاجتهاد على أهل العلم والاستنباط، وإلحاق الفروع بالأصول، وقد كان سبق قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"، وهذا دليل على أنه وَكَل بعض الأحكام إلى اجتهاد العلماء، وجعل لهم الأجر على الاجتهاد، فرأى عمر -رضي الله عنه- الصواب تركهم على هذه الجملة؛ لِمَا فيه من فضيلة العلماء بالاجتهاد، مع التخفيف عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، وفي تركه -صلى الله عليه وسلم- الإنكار على عمر -رضي الله عنه- دليل على استصوابه.
قال الخطابيّ -رحمه الله-: ولا يجوز أن يُحْمَل قول عمر -رضي الله عنه- على أنه توهّم