وقد كنا نظن أن شأن ما بين الرجلين سيؤول بعد موت أحدهما إلى أن يطوى فلا يروى، لكن الحقيقة أن اشتهار ما اشتجر بينهما نما واستقر في قلوب تلاميذهما حتى بعد وفاة أبي حفص، وأفضى بهم إلى تعصب مقيت تنفيه أصول الديانة، فاحترق صاحبنا بهاته العداوة حيا وميتا؛ فيروى أن أبا عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ كان يذكر مرة فضل علي بن المديني وتقدمه وتبحره في علم الحديث، فقال له بعض الحاضرين - ولعله من تلاميذ الفلاس (١) -: قد تكلم فيه عمرو بن علي. فقال: والله لو وجدت قوة لخرجت إلى البصرة فبلت على قبر عمرو بن علي!
ولا نعلم ابن المديني ذكر غريمه إلا في معرض التنقيص والتعريض، أما الفلاس فمما يدل على إنصافه: تسميته لابن المديني في الحكاية التالية على لسانه: «ما رأيت أحدا أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة؛ قدم علينا مع علي بن المديني، فسرد للشيباني أربع مئة حديث حفظا وقام»(٢)؛ وشأن المتنافرين ألا يسمي أحدهم غريمه إلا في معرض الهزء والشماتة.
وقد كنا أغنى الناس عن هذا الخوض، لولا أنه من عناصر الترجمة، ولا يضير هذين ما ترى، فـ «كفى المرء تبلا أن تعد معايبه!».
[ج - صلته بأصدقائه]
لا يسلم كبار العلماء فيؤتون أكلهم بإذن ربهم إلا وقد عانوا صنوفا من الانتخاب الطبيعي الذي يمدهم بحصافة رأي وحنكة تجربة، وهذان بلا ريب يفضيان إلى حكمة عميقة في التعامل مع أطياف الناس وتقلبات الأحوال، ومن ثم فطن صاحبنا إلى أن الصديق كبريت أحمر، وأن غالب من يستعيرون تلك الصفة أعداء مداجون،