وهما رفيقان في الطلب، جمع بينهما التبريز في العلم، وباينت بينهما نوازع الغيرة المستحكمة، وأول ما يثير الانتباه أنه بلغنا كلام ابن المديني في الفلاس، ولم يبلغنا كلام الفلاس فيه، والدواعي متوافرة لنقله؛ فإن عالما بد الشيوخ فضلا عن الأقران كابن المديني لم يخل عن أعداء ينفقون سلعة مناوئه، ويسهرون النبز فيه، فلو اشتهر لنقل، ولكان وصلنا منه قليل أو كثير، فلما لم يقع باليد منه شيء، استصحبنا حال السكوت، أو أن المبادأة على الأقل من ابن المديني.
وثاني ما نلمحه أن الفلاس لو كان عند كلام ابن المديني فيه نكرة غير موصوفة، أو طالبا من أفناء الطلبة كما أحب أن يصوره؛ لم يكن للوقوع في مذمته معنى؛ إذ لا أسمج من الاستنساد على الضعفة والصغار، فظهر منه أنه يوم تكلم فيه، تكلم في رجل صار له نفاق في سوق الحديث، وإقرار من سدنته، وما كان ذلك كله - في ظني - غائبا عن علي ﵀، فلذلك أدركه ما يدرك الأقران، ولا عبرة حينها بما يصدر عنه، ثم هو جرح غير قادح؛ لأنه غير مفسر، فقد قال عبد الله بن علي بن المديني:«سألت أبي عن الفلاس، فقال: قد كان يطلب! قلت: قد روى عن عبد الأعلى، عن هشام، عن الحسن: «الشفعة لا تورث». فقال: ليس هذا في كتاب عبد الأعلى» (١). وهو غمز في أدائه.
أضف إلى ما مر أنه اختص بالرواية عن رواة كبار أدركهم على صغر سنه، وهو ملمح من ملامح النبوغ المبكر بالنظر إلى جودة الاختيار، حتى اتهمه علي في روايته عن يزيد بن زريع - مثلا -؛ لأنه استصغره فيه (٢)، مع أن لروايته عنه شواهد تصححها، ثم هو ذكر طي تاريخه خبرا سمعه من معتمر بن سليمان في جنازة يزيد
(١) تهذيب التهذيب: (٨/ ٨١). (٢) فتح الباري: (١/ ٤٣١).