والصبيان من ورائه.
فجعل يجول في المسجد حتى إذا حاذاني جعل يتفرس فيَّ، فجزعت على نفسي منه.
فقلت: إلهي وسيدي أجعتنى، وسلطت عليَّ من يقتلني.
فالتفت إليَّ فقال:
محل بيان الصبر فيك عزيزة … فياليت شعري هل لصبرك آخر
قال الفضيل: فزال عنى جزعي وطار عني هلعي.
وقلت: يا سيدي لولا الرجاء لم أصبر.
قال: فأين مستقر الرجاء منك؟
قلت: بحيث مستقر هموم العارفين.
فقال: أحسنت واللَّه يا فضيل، إنها لقلوب الهموم عمارتها، والأحزان أوطانها، عرفته فاستأنست به، وارتحلت إليه.
فعقولهم صحيحة، وقلوبهم غارقة، بالأنوار مشرقة وأرواحهم بالملكوت الأعلى مُعلقة.
ثم ولى وأنشأ يقول:
فهام ولي اللَّه في القفر سائحًا … وحطت على سيد القدوم رواحله
فعاد سجين قد جرى في ضميره … تذوب به أحشاؤه ومفاصله
قال الفضيل: (١) فواللَّه لقد بقيت عشرة أيام لم أطعم طعاما، ولم أشرب شرابا وجدا بكلامه.
فطوبى لمن استوحش من الخلق واستأنس بالحق.
آنست بوحدتي ولزمت بيتي … فطاب الأنس لي وصفا السرور
وأدبني الزمان فلا أبالي … هجرت فلا أزَار ولا أزور
ولست بسائل ما عشت يومًا … أسار الجندُ أم رَكِبَ الأمير
(١) الفُضيل بن عياض بن مسعود الأستاذ الإمام شيخ الإسلام أبو علي التميمي اليربوعي المروزي الزاهد، قال ابن سعد: ولد الفُضَيل بخراسان بكورة أبيورد، وقدم الكوفة وهو كبير، فسمع من منصور، وغيره، ثم تَعبَّد ونزل مكة، وكان ثقة نبيلا فاضلًا، عابدًا، كثير الحديث.
قال ابن المبارك: ما بقي على ظهر الأرض عندي أفضل من الفُضيل بن عياض، توفي سنة (١٨٧) انظر تاريخ الإسلام وفيات (١٨١ - ١٩٠).