الخامسة: عنه أيضًا قال: بينما أنا أسير بين جبال الشام إذا بشيخ على قلعة من الأرض قد سقط حاجباه على عينيه كِبرًا.
فسلمت عليه، فرد عليَّ السلام.
ثم جعل يقول: يا من دعاه المذنبون فوجدوه قريبًا (١)، ويا من قصده الزاهدون فوجدوه حبيبًا ويا من استأنس به المجتهدون فوجدوه مجيبا.
ثم أنشأ يقول:
وله خصائص مصطفون بحبه … اختارهم في سالف الأزمان
اختارهم من قبل فطرة خلقه … فهم ودائع حكمة وأمان
السادسة: عن ذي النون أيضًا قال: وُصِف لي رجل من أهل المعرفة في جبل لكام فقصدته فلحقني جماعة من المتعبدين فسألتهم عنه فقالوا: تسأل عن المجانين.
قلت: وما رأيتم من جنونه؟
قالوا: نراه في أكثر أوقاته هنا قائمًا ساهيًا يكلم فلا يجيب، فلا نفقه ما يقول، وينوح في أكثر أوقاته على نفسه.
فقلت في نفسي: ما أحسن أوصاف هو المجنون ثم قلت لهم: دلوني عليه.
فقالوا: إنه يأوي في الوادي الفلاني. فانطلقت إليه، فأشرفت على واد وَعِر.
فجعلت أنظر يمينًا وشمالًا، فإذا أنا بصوت محزون شُجَّ من قلب وجل وهو يقول:
ياذا الذي أنِسَ الفؤاد بذكره … أنت الذي ما أن سواه أريد
تفنى الليالي والزمان بأسره … وهواك غض في الفؤاد جديد
إني أرى غيري إليك مقربا … وأنا بسهم الهجر منك بعيد
قال: فاتبعت الصوت، فإذا أنا بفتى حسن الصورة، وقد ذهبت تلك المحاسن وبقيت رُسُومها، نحيل قد اصفر واحترق، وهو شبيه بالوَاله الحيران.
فسلمت عليه فرد السلام، وبقى شاخصًا يقول:
أعُمِيت عيني عن الدنيا وزينتها … فأنت والروح شيء ليس يفترق
إذا ذكرتك وافي مقلتي (٢) أرق … من أول الليل حتى يطلع الفلق
(١) في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: ١٨٦].
(٢) المُقْلة: العين كلها.