ومثاله من السنة: نهيُ النبي صلى الله عليه وسلم عن التَّضحية بالعوراء (١)، تنبيهاً على النهي عن التضحية بالعَمياء، فهذا مثاله في الأمرِ والنهي، ومن التنبيه في باب الإخبار، قوله تعالى:{وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}[النساء: ٧٧]، {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا}} [الأنبياء: ٤٧]، {وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}[النساء: ١٢٤]، فذكر القليلَ تَنبيهاً على الكثيرِ، نافياً للظلم عن نفسِه سبحانه.
فصل
في الدلالةِ على الاحتجاجِ به
فمن ذلكَ: أن هذا ظاهر من لغةِ العربِ، وأنَّ العبد المنهي عن إعطاءِ زيد حبة، لا يحسنُ أن يَستفهِم سيّدَه الناهي له؛ فهل أُعطيه قيراطاً لما في القيراط من الحبَّات؟
وكذلكَ إذا قال: لا تَقل لأبيكَ أُفٍّ، لا يحسُنُ أن يقول: فهل تَفسح لي في ضربِه أو انتهارِه؟ لِما في الضربِ والانتهارِ من الأذية المتضاعفةِ على أذيّة التبرّمِ والضجَرِ؟ ومن جَحدَ ذلك سفَّهَ أهل اللغة، وأسقط حُكمَ الخطابِ.
ومنها: أنَ المنعَ من التأفيفِ لأجلِ الأذى بالتضجُّر بهما، لا لأجل مجرَّد اللفظةِ، والمفهومُ من التضجّر الأذى، وفي شتمِ الأبوينِ وسبهما ما يزيدُ على التضجُّر والتبرُّم، فكان منهياً عنه.
ومنها: أن هذا مما يتساوى في فهمِه النساءُ والسوقةُ، ولا يقف على المتميزين من
(١) ثبتَ ذلك بحديث البراءِ بن عازب، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أربعٌ لا يُضحَّى بهنَ: العوراءُ البيّن عَوَرها، والمريضةُ البين مرضُها، والعرجاءُ البين ظَلَعُها، والعَجْفاءُ التي لا تُنْقي". والظلَع: العرجُ، والعجفاءُ: الهزيلةُ، والتي لا تُنقى: هي التي لا نِقْي لعظامها -وهو المخ- من الضعف والهزال. أخرجه الترمذي (١٤٩٧)، والنسائي ٧/ ٢١٥ - ٢١٦، والبيهقي ٩/ ٢٧٤، والحاكم ٤/ ٢٢٣، وابن حبان (٥٩١٩) و (٥٩٢١)، (٥٩٢٢).