طريقة أخرى: أن الجمعة إنما فرضت على صفة تخالف سائر الأيام قصداً لاجتماع/ الناس، ووعظهم، وإغاظة عدوهم، وتذكرهم نعم الله عليهم، ولهذا شرطت فيها الخطبة لذلك، وقصرت الصلاة، وإذا صليت العيد فقد وُجد هذا المعنى على أوفى ما يكون؛ لأنا زدنا على صلاة الركعتين التكبير الزائد، والذكر، واستوفينا الخطبتين على أكمل أحوالها، فلا يحتاج إلى التكرار في فعل ذلك، فإن المقصود قد حصل، وتكراره ربما أدى إلى الملل والسآمة، ولهذا قال بعض الصحابة: كان النبي ﵇ يتخوّلنا (١) بالموعظة أحياناً خيفة السآمة (٢).
فإن قيل: فكان ينبغي أن لا يجوز فعل الجمعة لأجل ما ذكرتم.
قلنا: بل يفعلها؛ ليحضرها من يحب كثرة الطاعة، والاجتهاد في العبادة، ويتركها من هو مترف، وكسلان، وضجر، وتعب، وذو أشغال، كما يفعل النوافل بالليل والنهار من يريد الاجتهاد في العبادة، ويتركها غيرهم، فيكون الأولون أهل الفضائل، والباقون أهل المسامحة، واللطف، والمساهلة.
طريقة أخرى: أن الجمعة تسقط بمشقة السفر، والمرض، والمطر، والوحل، وغير ذلك، وفي فعلها مع صلاة العيد مشقة تضاهي ذلك، أو تزيد عليه؛ فإن الناس يبكرون لصلاة العيد، ويجتمعون من أطراف البلد وسواده (٣)، ثم يجلسون للصلاة، وسماع الخطبة، ثم يعودون إلى بيوتهم، فإنه إن كان فطراً فنفوسهم تائقة إلى الطعام والشراب، وإن كان أضحى
(١) التخوّلُ: التعهُّد، وتخوَّلهم بالموعظة، إذا تعاهدهم بها. [ينظر: جمهرة اللغة ٢/ ١٠٥٦، تهذيب اللغة ٧/ ٢٢٩، الصحاح ٤/ ١٦٩٠]. (٢) أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب ما كان النبي ﷺ يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا ١/ ٢٥، ح ٦٨، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار ٤/ ٢١٧٢، ح ٢٨٢١ من حديث ابن مسعود. (٣) السواد: ما حول كل مدينة من القرى. [ينظر: الصحاح ٢/ ٤٩٢، مشارق الأنوار ٢/ ٢٢٩].