جواب آخر: لو سُمي كل جزء رأساً، فتعلق الحكم باسم مطلق يعم الجميع، كما لو قال: اقطعوا سُرّاقكم، وحُدّوا زُناكم، عمَّ جميعهم، كذا ﴿وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ﴾ (١) يعم جميع ما يسمَّى رأساً.
فإن قيل: إلا أنه قد أدخل الباء في الكلام، والباء إذا دخلت في الكلام المستقل بنفسه مع عدمها أفادت التبعيض، كما قال: مسحت برأس اليتيم، وبالمنديل، وأخذت بقميص فلان، وبزمام الناقة.
قلنا: لا يُعرَف عن أحد من أهل اللغة أنه قال: الباء للتبعيض، قال أبو بكر عبد العزيز:/ سألت أبا بكر ابن دريد (٢)، وأبا عبد الله ابن عرفة (٣)، وأبا محمد جعفر بن محمد (٤)، عن الباء تُبعِّض؟ فقالوا: لا نعرف في اللغة أنها تُبعِّض، وإنما جعلت للخفض، وتحسين الكلام (٥).
(١) المَائدة: ٦. (٢) محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية، أبو بكر الأزدي البصري، نزيل بغداد، ولد في سنة ٢٢٣ هـ، كان واسع الحفظ، رأساً في العربية وأشعار العرب، كان يقال: ابن دريد أعلم الشعراء وأشعر العلماء. وله شعر كثير وتصانيف مشهورة منها: كتاب الجمهرة، وكتاب الأمالي، وكتاب اشتقاق أسماء القبائل، وغيرها. مات سنة ٣٢١ هـ. [ينظر: تاريخ بغداد ٢/ ٥٩٤، تاريخ الإسلام ٧/ ٤٤٦]. (٣) إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان بن المغيرة بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة، أبو عبد الله، العتكي، الأزدي، الواسطي، الملقب نفطويه، النحوي، ولد سنة ٢٤٤ هـ، كان يحفظ نقائض جرير والفرزدق وشعر ذي الرمة، أخذ العربية عن ثعلب، والمبرد، ومحمد بن الجهم، وخلط نحو الكوفيين بنحو البصريين، وتفقه على مذهب داود ورأس فيه، وكان ديناً ذا سنة ومروءة وفتوة، وكَيْسٍ، وحُسن خلق، صنف غريب القرآن، والمقنع في النحو، وكتاب البارع، وتاريخ الخلفاء، وغير ذلك، وله شعر رائق. مات سنة ٣٢٣ هـ. [ينظر: تاريخ بغداد ٧/ ٩٣، تاريخ الإسلام ٧/ ٤٧٢]. (٤) جعفر بن محمد بن الحسن بن المستفاض، أبو بكر الفِرْيابيّ، الحافظ، المصنّف، تركيّ الأصل، أحد أوعية العِلم والفهم، ثقة حجة، تولى القضاء، وأحد شيوخ أبي بكر عبد العزيز، ولد سنة ٢٠٧ هـ ومات سنة ٣٠١ هـ. [ينظر: تاريخ الإسلام ٧/ ٣١، الوافي بالوفيات ٤/ ٣٥، الأعلام للزركلي ٢/ ١٢٧]. (٥) ذكر تلك الرواية غير واحد، ولم يذكر أحد منهم جعفر بن محمد، وإنما ذكروا ابن دريد، وابن عرفة فقط. [ينظر: شرح الزركشي ١/ ١٩٠].