وقد رَوَى محمد بن الحَسَنِ بن زَبَالَةَ وهو "متروك الحديث، مُجْمَعٌ على تَرْكِ الاحْتِجَاجِ بِحَدِيثِهِ"، وقد انْفَرَدَ بهذا الحديث، عن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أَنَّهُ قال في حِينِ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ:"اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَخْرَجْتَنِي مِنْ أَحَبِّ الْبِقَاعِ إِلَيَّ، فَسَكِّنِي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إِلَيْكَ"، وهذا حَدِيثٌ لا يَصِحُّ عند أهل العلم بالحديث ولا يَخْتَلِفُونَ في نكارته ووضعه.
ثُمَّ قال: وَحَسْبُكَ بِمَكَّةَ أَنَّ فيها بَيْت اللَّهِ الذي رَضِيَ لِعِبَادِهِ على الحطِّ لأَوْزَارِهِم، وغُفْرَانِ ذُنُوبِهِم، أَنْ يَقْصِدُوهُ مَرَّةً وَاحِدَةً في أَعْمَارِهِم، ولم يَقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ صَلَاةً إلا باسْتِقْبَالِ جِهَتِهِ بِصَلَاتِهِ، إذا كان عَالِمًا بِالجِهَةِ قَادِرًا على التَّوَجُّهِ إليها فهي قِبْلَةُ أهل دينه أحياءً وأمواتًا، والآثَارُ عن السَّلَفِ في فَضَائِلِ مَكَّةَ كثيرةٌ جدًّا. (١)
وقال ابن القيم: اختار الله - سبحانه وتعالى - مِنْ الأماكن والبلاد خيرها وأشرفها، وهي البلد الحرام، فإنه - سبحانه وتعالى - اختاره لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، وجعله مناسك لعباده، وأوجب عليهم الإتيان إليه من القرب والبعد من كل فج عميق، فلا يدخلونه إلا متواضعين متخشعين متذللين كاشفي رءوسهم متجردين عن لباس أهل الدنيا، وجعله حرما آمنا لا يسفك فيه دم، ولا تعضد به شجرة، ولا ينفر له صيد، ولا يختلى خلاه، ولا تلتقط لقطته للتمليك بل للتعريف ليس إلا، وجعل قصده مُكَفِّرًا لما سلف من الذنوب، ماحيًا للأوزار، حاطًا للخطايا، كما في "الصحيحين" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»(٢)،
ولم يرض لقاصده من الثواب دون الجنة، ففي "السنن" عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ، وَالذَّهَبِ، وَالفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلا الجَنَّةُ»(٣)، وفي "الصحيحين" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ:«الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةُ»(٤)، فلو لم يكن البلد الأمين خير بلاده، وأحبها إليه، ومختاره من البلاد؛ لما جعل عرصاتها مناسك لعباده فرض عليهم قصدها، وجعل ذلك من آكد فروض الإسلام، وأقسم به في كتابه العزيز في موضعين منه، فقال تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣)} (٥)، وقال تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (١)} (٦)،