وأعظَمُ السُّخْريةِ والاحتقارِ هي التي تُطلَقُ على جماعةٍ؛ كسُخْريةِ قبيلةٍ مِن قبيلةٍ، وأهلِ بلدٍ مِن أهلِ بلدٍ؛ حتى تكونَ الفتنةُ بينَهم أشَدَّ ممَّا يقعُ مِن واحدٍ لواحدٍ، فيتباغَضُونَ ويتنازَعُونَ وتَذهَبُ بينَهم حرارةُ الأُخُوَّةِ الإيمانيَّةِ، وطعنُ القبائلِ والشعوبِ بعضِهم في بعضٍ مِن الكبائرِ، ويتساهلُ الناسُ بذلك، فتطعُنُ أمَّةٌ في أمَّةٍ لأجلِ رجلٍ واحدٍ منهم أساءَ، ويَسخَرُ شعبٌ مِن شعبٍ لأجلِ واحدٍ منهم، وقد رَوَى ابنُ ماجَهْ؛ مِن حديثِ عائشةَ، عن النبيِّ ﷺ؛ قال: (إِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ فِرْيَةً لَرَجُلٌ هَاجَى رَجُلًا، فَهَجَا الْقَبِيلَةَ بِأَسْرِهَا، وَرَجُلٌ انْتَفَى مِنْ أَبِيهِ وَزَنَّى أُمَّهُ) (١).
وقولُه تعالى: ﴿عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ﴾ بيَّن اللَّهُ أنَّ الخيريَّةَ لا تُوزَنُ بالظواهرِ التي يُزْدَرَى فيها الناسُ غالبًا، وذلك لأشكالِهم أو ألوانِهم أو لِباسِهم أو بُلْدانِهم، فاللَّهُ ذكَّر بأمرٍ لا يَراهُ الناسُ، وهو أمرُ البواطنِ، وفيه تنبيهٌ أنَّه يجبُ على مَنْ وقَعَ في نفسِهِ ازدراءٌ لأحدٍ أو تنقُّصٌ له، أنْ يتذكَّرَ أمرَ البواطنِ التي لا يراها إلَّا اللَّهُ، وقد يكونُ في سريرتِهِ خيرًا مِن الساخرِ به، وقد نبَّه النبيُّ ﷺ على هذا؛ فقد ثبَتَ في الصحيحِ؛ مِن حديثِ سهلِ بنِ سعدٍ الساعديِّ؛ أنَّه قال: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: (مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ )، فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا -وَاللَّهِ- حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آحَرُ، فَقَالَ لَه رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟ )، فَقَالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَلَّا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَلَّا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَلَّا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا) (٢).
(١) أخرجه ابن ماجه (٣٧٦١).(٢) أخرجه البخاري (٦٤٤٧).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute