لمَّا جاء كتابُ سليمانَ إلى مَلِكةِ سبإٍ وقرَأَتْه، أرسَلَت بكتابٍ إليه تَسْتَمِيلُهُ لكفِّ ما يُرِيدُه، مِن لَحَاقِها به، وخضوعِها للَّه، ونزولِها تحتَ حُكْمِه، وأرادتْ أن تَختبِرَ صِدْقَ دعْواه: هل هو صاحبُ دُنْيا؛ فتُسكِّنَهُ الهديَّةُ -لأنَّ صاحبُ الدُّنيا إنْ جاءه ما يُريدُ، سكَنَ طمعُه؛ لتحقُّقِ مقصودِهِ- أو صاحبُ دِينٍ ومقصودُهُ عبادةُ اللَّهِ وحدَه؟ كما رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّه قال: بعَثَتْ إليه بوصائِفَ ووُصَفَاءَ، وألبسَتهُمْ لِبَاسًا واحدًا؛ حتى لا يُعرَفَ ذكَرٌ مِن أُنثى، فقالتْ: إن زَيَّلَ بينَهم حتى يَعرِفَ الذَّكَرَ مِن الأُنثى، ثمَّ ردَّ الهديَّةَ، فإنَّه نبيٌّ، وينغي لنا أنْ نترُكَ مُلْكَنا، ونتَّبعَ دِينَه، ونَلحَقَ به (١).
وقال ابنُ زيدٍ: إنَّها قالتْ: إنَّ هذا الرجلَ إنْ كان إنَّما هِمَّتُهُ الدُّنيا، فسنُرْضِيه، وإنْ كان إنَّما يُرِيدُ الدِّينَ، فلن يَقبَلَ غيرَهُ (٢).
حُكْمُ قَبُولِ الهديَّةِ التي يُرادُ منها صَرْفٌ عن الحقِّ:
ولمَّا جاءتِ الهديَّة سليمانَ، رَدَّها ولم يَقْبَلْها؛ لأنَّ اللَّهَ لم يبعَثْهُ جابيًا للمالِ باحثًا عنه؛ وإنَّما مريدًا للناسِ العِبادةَ واستسلامَهُمْ للَّهِ، لا له.
وفي هذه الآيةِ: دليلٌ على عدمِ جوازِ قَبُولِ العالِمِ والمُصلِحِ الهديَّةَ إنْ كان مُهدِيها يُريدُ بها استمالةَ المُصلِحِ إلى ضلالِهِ أو إسكاتَهُ عنه؛ فإنَّ