والأحاديثُ الواردةُ في تأثيمِ ناسِي حِفْظِ القرآنِ معلولةٌ؛ وإنَّما عامَّةُ السلفِ على النهي عن ذلك والتشديدِ فيه، وصحَّ عن أبي العاليةِ -وهو مِن كبارِ التابعِين-: "كنَّا نَعُدُّ مِن أعظَمِ الذنوبِ أن يتعلَّمَ الرجُلُ القرآنَ ثمَّ ينامَ عنه حتى يَنساه"(٣).
وعن ابنِ سِيرينَ في الذي يَنسى القرآنَ: كانوا يَكرَهونَهُ ويقولونَ فيه قولًا شديدًا (٤).
وقد قال أحمد:"ما أشَدَّ ما جاء فيمَن حَفِظَهُ ثمَّ نَسِيَه"(٥).
القولُ الثاني: قال قومٌ: إنَّ ناسيَ حروفِ القرآنِ يُكرَهُ له ذلك، ولكنَّه لا يأثمُ ما دام عاملًا به ولم يترُك حدودَه، وحمَلُوا النِّسيانَ الواردَ في الأحاديثِ على هجرِ العملِ به، وممَّن قال بهذا: ابنُ عُيَينَةَ، وأبو يوسُفَ صاحبُ أبي حنيفةَ، وأبو شامةَ شيخُ النوويِّ، وقد سمَّى اللَّهُ الإعراضَ عن القرآنِ وتركَ العمل به نِسْيانًا؛ كما في قولِه تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (١٢٤) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (١٢٥) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى﴾ [طه: ١٢٤ - ١٢٦]، وفيه قال اللَّهُ: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ [الأنعام: ٤٤, الأعراف: ١٦٥]، أي: تَرَكوا، وقال ﴿نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: ٦٧]، وقال تعالى: ﴿الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا﴾ [الجاثية: ٣٤]، وقال: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ﴾ [طه: ١١٥]، قال ابنُ عُيَيْنَةَ: "ليس مَن اشتهى حِفْظَهُ وتفلَّتَ منه بنَاسٍ له إذا كان يحلِّلُ
(١) "علل الدارقطني" (٢٥٨٣). (٢) "التمهيد" (١٤/ ١٣٦). (٣) أخرجه أحمد في "الزهد" (ص ٢٤٥). (٤) "فتح الباري" لابن حجر (٩/ ٨٦). (٥) "مسائل الإمام أحمد" رواية أبي داود (ص ١٠٣)، و"الفروع" لابن مفلح (٢/ ٣٨٢).