حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال:«إني لَبَّدتُ رأسي، وقلَّدت هديي فلا أحل حتى أنحر».
قلت: ولم يذكر الشيخ هنا ما مر في عمرة القضية، والذي رجحه من كون معاوية إنما أسلم يوم الفتح صحيح من حيث السند، لكن يمكن الجمع بأنه كان أسلم خفية وكان يكتم إسلامه ولم يتمكن من إظهاره إلا يوم الفتح، وقد أخرج ابن عساكر في تاريخ دمشق من ترجمة معاوية تصريح معاوية بأنه أسلم بين الحديبية والقضية، وأنه كان يخفي إسلامه خوفاً من أبويه، وكان النبي ﷺ لما دخل في عمرة القضية مكة خرج أكثر أهلها عنها حتى لا ينظرونه وأصحابه يطوفون بالبيت، فلعل معاوية كان ممن تخلف بمكة لسبب اقتضاه.
ولا يعارضه أيضاً قول سعد بن أبي وقاص فيما أخرجه مسلم وغيره: فعلناها؛ يعني: العمرة في أشهر الحج، وهذا يومئذ كافر بالعُرُش بضمتين؛ يعني: بيوت مكة، يشير إلى معاوية؛ لأنه يحمل على أنه أخبر بما استصحبه من حاله، ولم يطلع على إسلامه؛ لكونه كان يخفيه، ويعكر على ما جوزوه أن تقصيره كان في عمرة الجعرانة؛ أن النبي ﷺ ركب من الجعرانة بعد أن أحرم بعمرة ولم يستصحب أحداً معه إلا بعض أصحابه المهاجرين فقدم مكة فطاف وسعى وحلق ورجع إلى الجعرانة، فأصبح بها كبائت؛ فخفيت عمرته على كثير من الناس؛ كذا أخرجه الترمذي وغيره، ولم يعد معاوية فيمن صحبه حينئذ، ولا كان معاوية فيمن تخلف عنه بمكة في غزوة حنين حتى يقال: لعله وجده بمكة بل كان مع القوم وأعطاه مثل ما أعطى أباه من الغنيمة مع جملة المؤلفة، وأخرج الحاكم في الإكليل في آخر قصة غزوة حنين أن الذي حلق رأسه ﷺ في عمرته التي اعتمرها من الجعرانة أبو هند عبد بني بياضة، فإن ثبت هذا وثبت أن معاوية كان حينئذ معه، أو كان بمكة فقصر عنه بالمروة، أمكن الجمع بأن يكون معاوية قصر عنه أولاً وكان الحلاق غائباً في بعض حاجته ثم حضر فأمره أن يكمل إزالة الشعر بالحلق؛ لأنه أفضل ففعل، وإن ثبت أن ذلك كان في عمرة القضية، وثبت أنه ﷺ حلق فيها جاء هذا الاحتمال بعينه، وحصل التوفيق بين الأخبار كلها، وهذا مما فتح الله عليَّ به في هذا الفتح، والله الحمد، ثم الله الحمد أبداً».
وقال في الإصابة (٦/ ١٢٠): «وذكر المروة يعين أنه كان معتمراً، لأنه كان في حجة الوداع حلق بمنى، كما ثبت في الصحيحين عن أنس».
قلت: قول الجمهور أشبه بالصواب، أن ذلك كان في عمرة الجعرانة، وما قاله ابن حجر محتمل؛ لكن لا يعارض بمثله قول سعد بن أبي وقاص؛ إذ الأصل حمله على الحقيقة، وأنه لا يطلق ذلك إلا مع التحقق من حال معاوية، وأما دعوى ابن حجر أن النبي ﷺ لم يستصحب أحداً معه في عمرة الجعرانة إلا بعض أصحابه المهاجرين، فلا يمنع من دخول معاوية فيهم على سبيل التبع، ومثل هذا النفي يحتاج إلى نص في عدم شهود معاوية لهذه العمرة، ولو اشتهر هذا النص لما قال الجمهور بخلافه، وأما ما قيل عن معاوية، أنه قال: أسلمت عام القضية؛ فليس له إسناد متصل [انظر: التاريخ الكبير