للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفي سنة اثنتين وتسعين وستّ مائة، تقدّم السّلطان الملك الأشرف صلاح الدّين خليل ابن قلاوون إلى الوزير الصّاحب شمس الدّين محمد بن السّلعوس، بتجهيز أمر الشّواني، فنزل إلى الصّناعة، واستدعى الرّئيس، وهيّأ جميع ما تحتاج إليه الشّواني حتى كملت عدّتها نحو ستين/ شونة، وشحنها بالعدد وآلات الحرب، ورتّب بها عدّة من المماليك السّلطانية وألبسهم السّلاح. فأقبل النّاس لمشاهدتهم من كلّ أوب قبل ركوب السّلطان بثلاثة أيّام، وصنعوا لهم قصورا من خشب وأخصاص القشّ على شاطئ النّيل خارج مدينة مصر وبالرّوضة، واكتروا السّاحات التي قدّام الدّور والزّرابي بالمائتي درهم كلّ زربية فما دونها، بحيث لم يبق بيت بالقاهرة ومصر إلاّ وخرج أهله أو بعضهم لرؤية ذلك، فصار جمعا عظيما.

وركب السّلطان من قلعة الجبل بكرة يوم (a) والنّاس قد ملأوا ما بين المقياس إلى بستان الخشّاب إلى بولاق، ووقف السّلطان ونائبه الأمير بيدرا وبقيّة الأمراء قدّام دار النّحاس، ومنع الحجّاب من التعرّض لطرد العامّة. فبرزت الشّواني واحدا بعد واحد (b)، وقد عمل في كلّ شونة برج وقلعة تحاصر، والقتال عليها ملحّ، والنّفط يرمى عليها، وعدّة من النّقّابين في إعمال الحيلة في النّقب، وما منهم إلاّ من أظهر في شونته عملا معجبا وصناعة غريبة يفوق بها على صاحبه.

وتقدّم (c) ابن موسى الرّاعي، وهو في مركب نيلية، فقرأ قوله تعالى: ﴿بِسْمِ اَللّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الآية ٤١ سورة هود]، ثم تلاها بقراءة قوله تعالى: ﴿قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ﴾ [الآية ٢٦ سورة آل عمران] إلى آخر الآية … هذا والشّواني تتواصل بمحاربة بعضها بعضا إلى أن أذّن لصلاة الظّهر، فمضى السّلطان بعسكره عائدا إلى القلعة. فأقام النّاس بقيّة يومهم وتلك الليلة على ما هم عليه من اللّهو في اجتماعهم.

وكان شيئا يجلّ وصفه، وأنفق فيه مال لا يعدّ، بحيث بلغت أجرة المركب في هذا اليوم ستّ مائة درهم فما دونها. وكان الرّجل الواحد يؤخذ منه أجرة ركوبه في المركب خمسة دراهم، وحصل لعدّة من النّواتية أجرة مراكبهم عن سنة في هذا اليوم. وكان الخبز يباع اثنا عشر رطلا بدرهم، فلكثرة اجتماع النّاس بمصر بيع سبعة أرطال بدرهم. فبلغ خبر الشّواني إلى بلاد الفرنج، فبعثوا رسلهم بالهدايا يطلبون الصّلح.

فلمّا كان المحرّم سنة اثنتين وسبع مائة، في سلطنة النّاصر محمد بن قلاوون، جهّزت الشّواني


(a) ساقطة من بولاق.
(b) بولاق: واحدة بعد واحدة.
(c) بياض في آياصوفيا.