اعتمد عديُّ بن حاتم ﵁ في فهمه لهذه الآية على أحدِ وجوهها في لغة العرب، وهو أقربها إلى ذهنه، والمتبادر له منها، ففهم الخيطين الأبيض والأسود على الحقيقة (١)، فصار المعنى عنده ﵁: إباحة الأكل والشرب ومباشرة النساء- ابتغاء ما كتبَ الله من الوَلَد- للصائم ليلًا، حتى يتبينَ خيطين أسودَ وأبيضَ بضياءِ الفجر. وعَبَّر عديٌّ ﵁ عن الخيطين بقوله (عقالٍ أسود وعقالٍ أبيض)، والعقالُ: الخيط؛ وسُمِّيَ بذلك لأنه يُعقَلُ به، أي يُربَط ويُحبَس (٢).
وهذا الفهم هو عين ما فهمه عدد من الصحابة ﵃ قبل ذلك (٣)، فعن سهل بن سعد ﵁ قال: أُنزلَت ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة ١٨٧] ولم ينْزل ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة ١٨٧] فكان رجالٌ إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيطَ الأبيض والخيطَ الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبينَ له رؤيتُهُما، فأنزل الله بعدُ ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة ١٨٧] فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار) (٤)، قال القاضي عياض (٥)(ت: ٥٤٤): (إنما
(١) المُفْهِمُ ٣/ ١٤٧، وفتح الباري ٤/ ١٦٠، والإصابة ٤/ ٣٨٨. (٢) المُفْهِمُ ٣/ ١٤٨، وفتح الباري ٤/ ١٥٨، والنهاية في غريب الحديث ٣/ ٢٥٣. (٣) قال ابن حجر: (ونزول ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ كان بسبب الأنصار؛ لأنهم حملوا الخيطين على حقيقتهما، وفعلُ عديّ استمر بعد نزول قوله تعالى ﴿مِنَ الْفَجْرِ﴾ حملًا للخيطين على الحقيقة أيضًا، وأن المراد: أن يوضح الفجرُ الأبيضَ منهما من الأسود، فقيل له: إن المراد بالخيط: نفس الفجر ونفس الليل) العُجاب في بيان الأسباب ١/ ٤٤٨. وقد ذكر ابن عطية في تفسيره ١/ ٢٥٨، والقرطبي في المُفهم ٣/ ١٤٩، أن بين حديث سهل وعديّ عامٌ؛ من رمضان إلى رمضان. وينظر: البحر المحيط، لأبي حيان ٢/ ٥٧، والتحرير والتنوير ٢/ ١٨٢. (٤) أخرجه البخاري في صحيحه ٤/ ١٥٧ (١٩١٧)، ومسلم في صحيحه ٣/ ١٦٤ (١٠٩١). (٥) عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي، من علماء المالكية، لُغَوي محدِّث حافظ، صنف: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، ومشارق الأنوار، وغيرها، توفي سنة (٥٤٤). ينظر: السير ٢٠/ ٢١٢، وشذرات الذهب ٦/ ٢٢٦.