ثم نندفع في إِيضاح هذا التقرير، فنقول: كلّ من الطّعم، والكَيْل، والقُوت معنى مخيل يصلح أن يناط به الحكم، وليس من شرط اجْتِمَاع العلل ألا يكون بعضها أرجح من بعض، بل جاز أن تكون علّتان إِحداهما أنسب، وأرجح، وأكثر تخيلًا، ولا يلزم من رجحان إِحداهما بطلان الأخرى، بل قد يتعاضدان؛ فإِن الترجيح إِنما يبطل به عند التعارض، أما عند التعاضد فلا، بل ولا فائدة في تطلبه، وقد تطلبوا التَّرجيح، وهذا لا شكّ فيه ولا ريب، فإِن كلّ ذي علّة يذهب في ترجيحها كلّ مذهب، فلولا اعتقاد امتناع التعدد لما تطلبوا الترجيح، بل كانت مناسبة كلّ واحدة من هذه الأشياء كافية في كونه علة، ومناسبة الآخر لا تمنع، ويجتمع العلّتان على المعلول الواحد.
وقد علمنا أن كلّ من أبدي وجهًا، وأخذ في ترجيحه على وجه صاحبه اكتفى بذلك مبطلًا لعلّة صاحبه، وما ذلك إِلا لامتناع التعدُّد، وإِلا كان صاحبه بسبيل من أن يقول: هَبْ أن ما أبديته أنسب وأرجح، إِلا أنه لا تعارض بيننا، فليكن المعنيان علّتين.
وقد علم كلّ ذي لبّ، أن من ضرورة التَّرْجيح استجماع شرائط الصِّحة، فإِنما يرجح أحد الأمرين على الآخر عند اجتماعهما، ما لو انفرد كلّ واحد منهما [وعَرَا](١) عن صاحبه - لعمل بمقتضاه، كما تقول في الحديثين المُتَعَارضين والبيّنتين المتعارضتين.
وحاصل هذا الوجه عند الاختصار: أنهم قد بحثوا في التَّرْجيح بين الطّعم، والكَيْل، والقوت، ولو لم يكن كلّ من الثلاثة مناسبًا مخيلًا، بحيث لو انفرد عمل به، لما وقع البحث في الترجيح؛ فإِنه لا ترجيح بين باطل وصحيح، إِنما الترجيح عند تعارض الصَّحيحين كما عرفت، وإِذا كان كلّ واحد منهما مناسبًا مخيلًا، فلا وجه للتَّرْجيح إِلا مع التعدد، فإِن الترجيح الذي قلنا: إِنه وقع منهم بيّن علل الرِّبا، إِما أن يكون لأن أحد الوصفين أنسب وأخيل من الآخر، أو لأن الآخر باطل بالكلية.
والأول باطل؛ لأنّ راجحية أحد الوصفين على الآخر لا تخرج الآخر عن كونه وصفًا مناسبًا مخيلًا صالحًا للعلّية، وإِذا لم تخرجه، وليسا متعارضين فأي فائدة في قولنا: هذا أرجح؟
وبحثنا عن ذلك البحث الشَّديد الشَّائع الذَّائع المستفيض بين السلف الماضين.