حين ينفى الإمكان بالعجز عن غير الممكن، فهو أمر لا تبلغ منه الفطرة الإنسانية مبلغا وليس إلى ذلك مأتى ولا جهة؛ وإنما هو أثر كغيره من الآثار الإلهية، يشاركها في إعجاز الصنعة وهيئة الوضع، وينفرد عنها بأن له مادة من الألفاظ كأنها مفرغة إفراغا من ذوب تلك المواد كلها. وما نظنه إلا الصورة الروحية للإنسان، إذا كان الإنسان في تركيبه هو الصورة الروحية للعالم كله. فالقرآن معجز في تاريخه دون سائر الكتب، ومعجز في أثره الإنساني؛ ومعجز كذلك في حقائقه؛ وهذه وجوه عامة لا تخالف الفطرة الإنسانية في شيء؛ فهي باقية ما بقيت، وقد أشرنا إليها في بعض الفصول المتقدمة؛ على أنها ليست من غرضنا في هذا الباب وإنما مذهبنا بيان إعجازه في نفسه من حيث هو كلام عربي. لأننا إنما نكتب في هذه الجهة من تاريخ الأدب دون جهة التأويل والتفسير) (١).
قلت: يظهر لنا من هذا النقل أمور كثيرة:
أولاً: يرى الرافعي أن وجوه إعجاز القرآن الكريم كثيرة، فكل ما يصلح أن يكون القرآن معجزاً فيه فهو فيه معجز.
ثانياً: يريد الرافعي أن يبحث في كتابه هذا ما يتعلق بتخصصه الدقيق الذي اشتهر به، وهو أسلوب القرآن الكريم: (من طرق نظمه، ووجوه تركيبه، ونسق حروفه في كلماتها، وكلماته في جملها، ونسق هذه الجمل في جملته - ما أذهلهم عن أنفسهم، من هيبة رائعة وروعة مخوفة، وخوف تقشعر منه الجلود؛ حتى أحسوا بضعف الفطرة القوية، وتخلّف الملكة المستحكمة؛ ورأى بلغاؤهم أنه جنس من الكلام غير ما هم فيه، وأن هذا
(١) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، الرافعي، ص ١٠٩.