للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن توسع المعبرين، أنهم أنشؤوا مواقع على الانترنت، وبرامج فضائية، وتفرغوا للتعبير، وتوفروا عليه، وربما صاحب ذلك حظوظ الدنيا، حتى باتت نوعاً من الاسترزاق عن طريق رسائل الجوال الباهظة الثمن، أو حبًا للتصدر والذكر. فكل هذا مما حدث في الأزمنة الأخيرة، ولم يكن المعبرون فيما مضى ينصبون أنفسهم، ويتعرضون للتعبير. فعلى الإنسان أن يعتدل، فلا يهون من شأن الرؤى، ويردها، ويسخر منها، كما قد يقع من بعض الناس، ولا يغالي فيها، حتى يجعلها شغله الشاغل، ويعيش في دوامة من القلق والظنون، فتوهن عزمه، وتفت عضده، فتكثر عليه المخاوف.

قوله: "وإنكم قلتم كلمة يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها" أي: أن النبي كان يمنعه الحياء أن يجابههم بالنهي عنها؛ وذلك أن النبي كان رجلاً حيياً، أشد حياء من العذراء في خدرها، والحياء ليس نقصاً، بل هو من الإيمان، ودليل حياة القلب، وإنما سُمي الحياء حياء لأنه علامة حياة القلب؛ ولذلك يُسمى المطر حياءً؛ لأن الأرض تحيا به. فإذا كان الإنسان حييًا، دل ذلك على صحة قلبه، ولهذا كان النبي وجهه مرآة قلبه، فما وقع في قلبه ظهر على محياه لصدقه، فكان إذا فرح تهلل وجهه حتى كأنه مذهبة، وانفرجت أساريره، وإذا حزن، أو رابه شيء، عرف ذلك في وجهه، وهذا دليل الصدق. ومن الناس من لا يظهر عليه أي تعبير، ولا تعرف أراضٍ هو أم ساخط؟ وهذا يوجب الريبة، فلا يطمئن إليه محدثه، ومن يتعامل معه.

والمقصود، أن الحياء منعه أن يجابههم بالنهي. ومن شواهد ذلك: أنه رأى على رجل صفرة، فكرهها، وكره أن يجبهه بذلك، فلما ولّى الرجل قال لأصحابه: "لو أمرتم هذا أن يغسل هذه الصفرة" قال الراوي: "وكان لا يكاد يواجه أحداً في وجهه بشيء يكرهه" (١).

وها هنا إشكال! فربما قال قائل: لم أخّر النبي البيان؟ هل الحياء يمنع من بيان الحق؟ الجواب أن يقال: لأن هذه المسألة لم يأتِ فيها حكم صريح بعد، وإلا فإنه لو بلغ النبي حكم من الله بتحريم ذلك ما تأخر عن البيان،


(١) أخرجه أحمد ط الرسالة برقم (١٢٣٦٧) وقال محققو المسند: "إسناده حسن".

<<  <  ج: ص:  >  >>