التحاكم إلى الطاغوت، والطاغوت -كما تقدم - مشتق من الطغيان الذي هو التجاوز. واصطلاحًا: كل ما تجاوز به العبد حده؛ من معبود، أو متبوع، أو مطاع. والطاغوت هنا هو كعب بن الأشرف، كما سيأتي في سبب النزول، لكن الآية أعم، والقاعدة عند المفسرين: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فقد تنزل آية من الآيات في واقعة معينة، ولا يقتضي هذا اختصاص الحكم بتلك القضية المعينة، بل ما دل عليه اللفظ بعمومه ينسحب على جميع أفراده.
قوله: ﴿وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ﴾ الكفر بالطاغوت واجب، بل هو قسيم الإيمان بالله، كما قال تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٥٦]
قوله: ﴿وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ أي: يستهويهم الشيطان بهذا المسلك، ويغويهم، فالضلال بمعنى: التيه والضياع عن طريق الحق.
وتتمة هذه الآية: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا﴾ [النساء: ٦١] هذا هو الوصف الثاني: أنهم إذا دعوا إلى التحاكم إلى ما أنزل الله، وإلى الرسول، صدوا، وأعرضوا، وأشاحوا بوجوههم. ثم قال الله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا﴾ [النساء: ٦٢] هذا هو الوصف الثالث: وهو أنهم إذا وقعت عليهم بلية ومصيبة، وانكشف أمرهم، وافتضحوا، جاؤوا معتذرين: أنهم إنما أرادوا الإحسان، والتوفيق بين المصالح، ونحو ذلك من الدعاوى والمعاذير التي ظاهرها البراءة والنصح، وباطنها الخبث والغش.
وهذه الآيات العظيمة، عند التأمل، تنطبق على فئات متعددة: فقد طبقها شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ على المتكلمين من الجهمية والمعتزلة ومن شابههم، الذين اشتغلوا بعلم الكلام، وتركوا علوم الكتاب والسنة؛ فإن المتكلمين أعجبوا بعلوم اليونان ومنطقهم، وقدموا الأدلة العقلية على الأدلة النقلية، ووقعوا فيما وقع فيه المنافقون، وشابهوهم من عدة وجوه: