للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط" (١).

فهذه الأقوال لهؤلاء الأئمة دليل صدقهم وإخلاصهم، وأنهم ما كانوا يريدون الاستكثار من الأتباع، بل همهم إصابة الحق. فمحبتهم والنصح لهم، ألا نتبعهم إلا على ما وافق هدي النبي . وهذا المعنى ينبغي أن يرسخ في القلب والنفس، وأن نعلم مقتضى شهادة أن محمد رسول الله: تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع. وهذا لا يقتضي الزهد في أقوال العلماء والفقهاء، كما يقع من بعض السفهاء، فإنه لشدة حملته على التعصب والجمود، ينتقل إلى الطرف المقابل، فيقع في النيل من أئمة المذاهب، وازدراء كتب المذاهب، والطعن في الفقهاء، وهذا مسلك باطل. فالعلماء اجتهدوا في تقريب العلم، ووضعوا متوناً مختصرة، مما رأوا أنه موافق للدليل، وهم في ذلك مجتهدون. ولهذا كان الأئمة المحققون، كشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمهما الله- وغيرهما، ينسبون إلى مذهب الإمام أحمد، لكنهم يخالفون المذهب في مسائل كثيرة.

وبناء عليه، فلا ينافي الإتباع للنبي أن يتفقه الإنسان على مذهب معتبر، بل ينبغي لطالب العلم أن يتفقه على أصول المذهب السائد في محلته ومنطقته؛ فإذا كان مثلاً في البلاد النجدية، تفقه على مذهب الإمام أحمد؛ لأنه السائد المعمول به، وإذا كان في بلاد المغرب، تفقه على مذهب مالك؛ لأنه السائد المعمول به في تلك الجهات، وإذا كان في بلاد الشام، أو الهند، تفقه على مذهب أبي حنيفة، لأنه السائد المعمول به، وإذا كان في بلاد مصر أو بعض بلاد المشرق؛ كماليزيا، وإندونيسيا، وأواسط آسيا، تفقه على مذهب الشافعي، لأنه السائد المعمول به. وليس من مقتضى التفقه على مذهب معين أن يصم الإنسان أذنيه، ويغمض عينيه، ولا ينطق إلا بما جرى به المذهب، بل عليه أن يتجرد للحق، فإذا تبيّن له الحق في خلاف مذهبه تبعه، وإلا وقع في التعصب المذموم؛ إذ لا يليق بطالب العلم أن يبلغه الدليل، ثم تأخذه حمية التعصب المذهبي فينتصر للمذهب، مع بدو الدليل على خلافه.


(١) إعلام الموقعين عن رب العالمين (٢/ ٢٨٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>