للقرآن، مع ما يحصل له من الارتفاق في دنياه من مال يعينه على مقاصده، أو سكن، أو نحو ذلك، فهذا لا بأس به، ولا يقدح في نيته. وكذلك من يستنيبه العاجز ليحج له، ويأخذ على ذلك عوضًا، فهذا إذا قصد نفع أخيه، وشهود المنافع التي وعد الله تعالى بها في الحج، فهذه نية صالحة، ولا حرج عليه فيما أخذ، أو فيما أعطي. وهكذا بقية الوظائف الدينية؛ كالقضاء، والتعليم، والخطابة، والإفتاء، والأذان، والإمامة، وغير ذلك. وإنما المحظور: أن يسعى ليكون إماماً، لأجل أن يجد بيتاً يسكن فيه، ولولاه ما أمَّ المسلمين. فهذا اتخذ الإمامة وسيلة للسكنى. أو كمن يدخل الكليات الشرعية بغرض التعيين على وظيفة تدر عليها دخلًا شهريًا، ولم يلحظ إلا الدنيا فقط، فهذه نية فاسدة تدخله في هذا الوعيد. بخلاف لو نوى بدراسته الشرعية التزود بالعلم، بطرق منظمة، ومنهجية، والحصول على شهادة تمكنه من نفع العباد، والبلاد، وكفاية نفسه ومن يعول، فهذه نية صالحة، ولا غبار عليها. وما زال المسلمون من عهد النبوة، والخلافة الراشدة على ذلك. ولا تستقيم المصالح الشرعية إلا بها.
لكن ينبغي للإنسان أن يتعاهد قلبه، وأن يصحح نيته، فقد يشوب النية في البدايات شائبة سوء، لكن يصلحها الله ﷿، حتى قال بعض أهل العلم:"طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن يردنا إلا إلى الله"(١)، أي: أنهم في مستهل طلبهم، وقلة علمهم، وضعف فقههم، وورعهم، ربما كان في نفوسهم شائبة من إرادة الدنيا، فلما أشرفوا على العلم، ونظروا فيه، أصلح الله به قلوبهم، فزالت عنهم هذه الشوائب.
وقد يبتدئ الإنسان بنية صالحة، ثم يطرأ عليه انحراف في النية، فيزين له الشيطان حب التصدر، والتزين أمام الناس، والمنافسة على حطام الدنيا، فيهلك. فعلى المؤمن أن يداوي نفسه بذكر هذه الآيات، والتمعن فيها، والعلم بأن الله تعالى "أغنى الشركاء عن الشرك" كما سبق، وأنه لا يبقى له إلا ما أريد به وجه الله؛ ولهذا لما قيل للإمام مالك بن أنس ﵀: "إن فلاناً قد ألّف موطئاً
(١) من قول (يزيد بن هارون) كما في الآداب الشرعية والمنح المرعية (٢/ ٣٧).