النجار، فاشتراه منهما بالثمن، وأقام عليه مسجده، وهو موضع مخصوص، حتى إنه جاء في قصة الهجرة: أن النبي ﷺ حين انطلق من قباء جعلت أحياء الأنصار يتلقونه ويقولون: يا رسول هنا المنزل، هنا المنعة والعشيرة ﵃، وكلهم يعرض نفسه، فكان النبي ﷺ يقول:"دعوها، فإنها مأمورة"(١) أي: الناقة، مسيرة من عند الله ﷿، حتى بلغت موضع مسجده، فبركت، فلم ينزل عنها النبي ﷺ، ثم قامت، حتى مشت، فبركت، ثم رجعت إلى موضعها الأول، فألقت جِرانها، وتحلحلت، فقال النبي ﷺ:"ها هنا المنزل -إن شاء الله-"(٢). فهو منزل بوأه الله إياه، كما بوأ لإبراهيم مكان البيت، فلهذا كانت الصلاة فيه تعدل ألف صلاة فيما سواه من المساجد، وقد أسس على التقوى من أول يوم، فهو أحق أن يقوم فيه.
وقال الله تعالى مثنياً على أهله، وهم الأنصار المحيطين به، من بيوتات، وعشائر مختلفة، من الأوس والخزرج، ومنهم أهل قباء: ﴿فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ والمراد بالطهارة هنا: الطهارة المعنوية والحسية؛ فالطهارة المعنوية المقصود بها الطهارة من الشرك، والبدعة، والذنوب، والكبائر. وأما الطهارة الحسية فالمقصود بها الطهارة من الحدث، والخبث. وكلا الطهارتين كانتا مجتمعتين في الأنصار -رضوان الله عليهم-. ومن حمل الآية على أهل قباء روى في ذلك حديثاً: أن النبي ﷺ أتاهم في مسجد قباء فقال: "إن الله ﵎ قد أحسن عليكم الثناء في الطهور، في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ " قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً، إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا (٣)، أي: فعلوا ذلك، ولا شك أن الماء طهور ومطهر.
مناسبة الآية للباب:
لطيفة المأخذ، لأن الله نهى نبيه عن الصلاة في "مسجد الضرار"، لمخالفته
(١) المعجم الأوسط برقم (٣٥٤٤) ودلائل النبوة للبيهقي (٢/ ٥٠١). (٢) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (٣/ ٢٧٣) والرحيق المختوم (ص: ١٦٦). (٣) أخرجه أحمد ط الرسالة برقم (١٥٤٨٥) وقال محققو المسند: "حديث حسن لغيره"، وابن خزيمة برقم (٨٣)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود: (١/ ٧٥)، ط. غراس.