العباسي، عندما تثبتت أركان الدولة العباسية الجديدة، وتمتع الموالي والأعاجم وأهل الحضر بالحرية التي فسحت لهم مجال التعببر عن مشاعرهم ومثلهم في الحياة، وقد استغل البعض هذه الحرية واندفعوا يتهجمون على المثل العربية الصحراوية مما يهدد مكانة العرب، وقد يهدد مكانة الاسلام، كل هذا في زمن كانت الجزيرة قد استنزفت طاقاتها البشرية فلم تمد الدولة بنفس العدد الكبير من المقاتلة؛ وقد أدرك كثير من العرب ومؤيديهم والمعجبين بهم خطر هذا الوضع الجديد فحاولوا إيقاف أثره وإبراز تراث جزيرة العرب، فاهتم الخلفاء العباسيون - وهم عرب - بالتراث العربي الصحراوي، وأظهروا حبهم لشعر أهل الصحراء، وأغدقوا على شعراء الصحراء الهبات، وجعلوا مؤدبي أولادهم من العلماء بثقافة جزيرة العرب، وعملوا على ترجمة الكتب إلى العربية لدفع العلماء على الاستغناء عن غير العربية، وشجعوا دراسة تراث الجزيرة ولغتها وآدابها، فظهرت المفضليات والمختارات ومجاميع الشعر العربي القديم، واهتم عدد من العلماء بتسجيل ثقافة عرب الصحراء واتصلوا بالوافدين منها، ورحلوا إليها ليستمدوا معلوماتهم من المقيمين بها. وقد كانت ثمرة ذلك ثروة ضخمة غنية في كثير من ميادين المعرفة، ومنها الاهتمام بقبائل العرب ومواطنها وتاريخها.
في هذا الجو العلمي ألف الأصمعي كتابه عن جزيرة العرب، مركزا اهتمامه بوصف ديار كل عشيرة كانت قائمة، ومواطنها. فهدفه محدد واضح، وهو ينسجم مع تأليف الكتب آنذاك، حيث كان لكل كتاب هدف محدد معين، يمثل جانبا من ثقافة المؤلف، ولا يمثل نظرته، إذ ان نظرة المؤلف تتجلى في جملة ما يكتب، وقد كتب الأصمعي كتبا أخرى عن جوانب أخرى من حياة الجزيرة وأهلها.