وقيل: أمر بالتقوى في أحكام الطلاق ثلاثَ مراتٍ، ووعد في كلّ مرةٍ نوعاً من الجزاء، فقال: أولاً: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا}، يُخرجه مما دخل فيه وهو يكرهه، ويُتيحُ له محبوبَه من حيثُ لا يتأمّل.
وقال في الثاني: يُسهّل عليه الصعبَ من أمره، ويُتيحُ له خيراً ممَّن طلّقها، إنْ كان الطلاقُ من جهتها.
والثالث: وعد (١) عليه أفضلَ الجزاء، وهو ما يكونُ في الآخرة من النَّعماء (٢).
{ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ}: أي: المفروضُ المتقدّم ذكرُه فرضُ الله.
{أَنْزَلَهُ}: من اللّوح المحفوظ {إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (٥)}: سبق.
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ}: أي: أنزلوهن الدارَ والمسكنَ الذي أنتم به
سكنتم ونزلتم (٣).
{مِنْ وُجْدِكُمْ}: من غنائكم الذي به ملكتم المساكنَ.
وقيل: الأمرُ بالسُّكنى قد تقدّم، وهذا أمرٌ بالإنفاق عليهن. والمعنى: أشركوهن (٤)
فيما وجدتم من المال.
وقيل: {مِنْ وُجْدِكُمْ}: سعتكم وقُدرتكم (٥).
{وَلَا تُضَارُّوهُنَّ}: أي: في السُّكنى، ولا في النفقة.
والمضارّةُ: المضايقةُ والمزاحمةُ.
{لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ}: فتُحوِجوهنَّ إلى الخروج (٦).
{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ}: أي: المطلَّقات ذوات الأحمال.
{فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}: أجمعوا على أنَّ المطلَّقةَ إذا كانت
حاملاً فلها النَّفقةُ، وكذلك كُلُّ (٧) مطلَّقةٍ ما دامت في العدّة فلها السُّكنى والنفقةُ.
وقال بعضُهم: إذا بانت فلها السُّكنى دون النفقة (٨).
{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ}: يعني: النساءَ البوائنَ أولادَكم منهن.
{فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}: على الإرضاع؛ لأنه لا يجبُ عليها الإرضاع.
{وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ}: ليأمرُ بعضُكم بعضاً بالجميل في إرضاع الولد.
وقيل: {بِمَعْرُوفٍ}: بمشورةٍ في الإرضاع.
وقيل: هو أنْ لا يضرَّ الرجلُ بالمرأة، ولا المرأةُ بالرجل في الإرضاع.
{وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ}: تضايقتم واختلفتم في الإرضاع، فأبت الأمُّ أو أبى الأب، أو
تضايقتم في الأجرة.
{فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (٦)}: بدفع (٩) الصبيِّ إلى امرأةٍ أخرى، ولا تجبرُ (١٠)
الأمَّ على الإرضاع، فإنْ لم يقبل الصبيُّ ثديَ غيرها أُجبرت على إرضاعه بأُجرة المثل (١١).
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}: أي: لينفق الكثيرُ المالِ على المطلَّقة، وعلى أمِّ الولد من غِناه وثروته.
{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ}: أي: رزقه الله على قدر قوّته.
وقيل: ضيِّق وقتِّر (١٢).
{فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ}: أي: لينفق من ذلك الذي يؤتى وإنْ كان قليلاً.
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا}: ما أعطاها من الرزق.
وقيل: " {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا}: أي: بقدر عقلها. حكاه
النقاش " (١٣)، فعلى هذا التأويل لا يكونُ متّصلاً بما قبلها.
{سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (٧)}: أي: بعد ضِيقٍ في المعيشة سعةً.
وهذا وعدٌ للمؤمنين، كقوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: ٥]، أي:
عاجلاً وآجلاً (١٤).
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ}: أهل قريةٍ {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} (١٥):
خالفت (١٦) اللهَ ورُسُلَه (١٧).
وقيل: هم قومٌ عُذِبوا بمعصيتهم وتعدِّيهم (١٨) في الطَّلاق (١٩).
{فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (٨)}:
قيل: فيه تقديمٌ وتأخير، أي: عذَّبناها عذاباً شديداً في الدنيا، ونُحاسبُها (٢٠) حساباً
شديداً في القيامة (٢١).
وجاء بلفظ الماضي للتَّحقيق، كأكثر ألفاظ القيامة (٢٢).
وقيل: حاسبناها في الدنيا، أي (٢٣): أخذنا ما لنا وأعطينا ما لهم، والمعنى: أخذناهم
بالذنوب.
وقيل: جازيناها، من قوله: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون: ١١٧].
وقيل: ضيّقنا عليها (٢٤).
ومعنى {نُكْرًا}: فظيعاً (٢٥) شديداً.
وقيل: لا يُعهدُ مثلُه (٢٦).
{فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا}: نالت وبيلَ فعلِها وعقوبةَ صُنعها.
{وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (٩)}: أي: آخر أمرها خُسراناً، لا رِبحَ فيه.
ثم فسّر فقال (٢٧):
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}: يا ذوي
العقول. ولبُّ كلّ خالصُه، وقيل: اللُّبُّ: القلب (٢٨).
(١) في (ب) " توعد ".
(٢) انظر: البرهان؛ للكرماني (ص: ٣١٣)، البحر المحيط (١٠/ ٢٠١).
(٣) في (ب) " وسكنتم ونزلتم ".
(٤) في (أ) " أتركوهنَّ ".
(٥) وكلُّها معانٍ متقاربة. [انظر: معاني القرآن؛ للفرَّاء (٣/ ١٦٣)، جامع البيان (٢٨/ ١٤٥)].
(٦) انظر: جامع البيان (٢٨/ ١٤٦)، النُّكت والعيون (٦/ ٣٣).
(٧) " كُلُّ " ساقطة من (ب).
(٨) وهو مذهب مالك والشافعي، ورواية عن أحمد. [انظر: النُّكت والعيون (٦/ ٣٣)، زاد المسير (٨/ ٧٤)، تفسير البغوي (٨/ ١٥٤)].
(٩) في (ب) " يُدفعُ ".
(١٠) في (أ) " ولا تُجبرُ ".
(١١) انظر: النُّكت والعيون (٦/ ٣٤)، الجامع لأحكام القرآن (١٨/ ١٦٣).
(١٢) انظر: جامع البيان (٢٨/ ١٤٨)، زاد المسير (٨/ ٧٥).
(١٣) لم أقف عليه.
(١٤) انظر: معاني القرآن؛ للزَّجَّاج (٥/ ١٤٦)، زاد المسير (٨/ ٧٥)، تفسير البيضاوي (٢/ ٥٠٣).
(١٥) في (أ) " عَتَتْ {عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا}: خالفت اللهَ {وَرُسُلِهِ} ".
(١٦) في (ب) " خالفَ ".
(١٧) انظر: جامع البيان (٢٨/ ١٥٠)، معاني القرآن؛ للزَّجَّاج (٥/ ١٤٦).
(١٨) في (أ) " وتعذيبهم ".
(١٩) ذكره ابن جرير بسنده في جامع البيان (٢٨/ ١٥٠) عن عمرو بن أبي سلمة عن عمر بن سليمان، وأورده النَّحَّاس في إعراب القرآن (٤/ ٢٩٩).
(٢٠) في (أ) " ويُحاسبها ".
(٢١) انظر: معاني القرآن؛ للفرَّاء (٣/ ١٦٤)، تفسير الثعلبي (٩/ ٣٤٢).
(٢٢) انظر: تفسير الثعلبي (٩/ ٣٤٢)، تفسير البيضاوي (٢/ ٥٠٣).
(٢٣) " أي " ساقطة من (أ).
(٢٤) انظر: جامع البيان (٢٨/ ١٥٠)، تفسير السَّمرقندي (٣/ ٤٤٢)، زاد المسير (٨/ ٧٦).
(٢٥) في (أ) " قطيعاً ".
(٢٦) انظر: جامع البيان (٢٨/ ١٥٠)، تفسير الثعلبي (٩/ ٣٤٢).
(٢٧) " فقال " ساقطة من (أ).
(٢٨) انظر: المفردات (ص: ٧٣٣)، مادة "لَبَّ".