النبي ﷺ أتاه نفر من المنافقين، تظاهروا بالإصلاح والتوفيق، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد ابتنينا مسجداً؛ ليكون للضعيف، وأصحاب العلل في الليلة الشاتية، ونحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه، وكان النبي ﷺ على أهبة التوجه لغزوة تبوك، فقال النبي ﷺ:"إني على جناح سفر، فلو قد رجعنا إن شاء الله ﷿ أتيناكم، فصلينا لكم فيه"(١)، ومضى النبي ﷺ لغزوته، فلما رجع، وكان بينه وبين المدينة ليلة، نزلت الآيات وهي قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ [التوبة: ١٠٧، ١٠٨](٢). فنبّه الله تعالى نبيه إلى هذا الأمر، وفضح أولئك المنافقين، وبيّن أنهم بنوا ذلك المسجد لقصد المضارة، لكي يكون مباءة لهم، ومجمعاً يتآمرون فيه على الإسلام وأهله، والتفريق بين المؤمنين، ﴿وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ وهذا إشارة إلى رجل يقال له: ابن قمئة، كان قد تنصر في الجاهلية؛ فلما قدم النبي ﷺ المدينة، أبى قبول الإسلام، والتحق بالمشركين، وصار يراسل المنافقين، ويهيجهم ضد النبي ﷺ، فجعلوا هذا المسجد -مسجد الضرار- موضعاً يجتمعون فيه، وربما تسلل إليهم فيه ذلك الخبيث. فلما بنوا هذا المسجد لهذه الأغراض الفاسدة، نهى الله تعالى نبيه عن القيام فيه، حتى لا يضفي عليه صفة شرعية، وليس المراد مجرد القيام الذي بمعنى الوقوف، وإنما القيام للصلاة. فدل ذلك على إن كل مسجد ضرار، لا يجوز الصلاة فيه، إذا قُصد منه المضارة والتفريق بين المؤمنين، والإرصاد لمن حارب الله ورسوله، ونحو ذلك من المقاصد الفاسدة.
قوله: ﴿أَبَدَاً﴾ تأبيد، يدل على أنه حتى لو حُول عن هذا الغرض، فإنه منهي عن القيام فيه.
ومن أعجب العجب أن أحد الإخوة في المدينة النبوية أراني موضعاً في
(١) دلائل النبوة للبيهقي (٥/ ٢٥٩) والدر المنثور في التفسير بالمأثور (٤/ ٢٨٦). (٢) أسباب النزول ت زغلول (ص: ٢٦٤).