وبينما كان أبو شامة يلملم جراحه كذلك، إذا بالموت يخطف أقرب أصدقائه إلى قلبه وأحبهم إليه، ظهير الدين عبد الغني بن حسان المصري، الذي كان أنيسه في وحشة تلك الأيام، فتعصر قلبه مرارة اللوعة وفاجعة الفراق، فيبكيه بكلمات حزينة قائلا:«لم يكن لي صاحب أخص منه، كنت آنس به وبحديثه، وفي أضيق ما أكون من الهم أجتمع به فيزول عني، ﵀»(١).
ومن لهمه الآن؟ ويتلفت حوله فلا يرى إلا ما تركه الحصار من دمار في القلوب والبيوت، ومن ظلمة الحزن تشع في قلبه فكرة، لم لا يبث أوراقه ما يجده ويكابده في حياته بعد فقده أصدقاءه وشيوخه؟ ألم تغيبهم القبور واحدا بعد الآخر، فلم لا ينتشل معانيهم الجميلة وصفاتهم الحميدة من حفرة النسيان والعدم، ليبقيهم معه أحياء على الورق؟ أما آن له أن يدون تاريخه الذي فكر فيه منذ زمن؟
ويكب على أوراقه ليكتب فيها أول مؤلفاته التاريخية، وهو في السابعة والعشرين من عمره، تاريخ هو أقرب إلى الذكريات، ومن ثم لم يعن نفسه في البحث له عن عنوان، وبنفس تفيض بالحزن والأسى، يخط مقدمته، وكأنها مرثية من المراثي: «الحمد لله الذي بإرادته تتغير الأحوال، وعلى وفق مشيئته تتصرف الأفعال، الذي انفرد بالبقاء، وكتب على غيره الزوال، وجعل الدنيا متنقلة لا تدوم على حال، وقضى على أهلها بالإدبار والإقبال، فكم ممن يؤمل الآمال فتحترمه دونها الآجال، وكم ممن يفجأه النوال، ولم يكن يخطر له ببال، فالحمد لله الكبير المتعال، ذي المعارج والطول والإكرام والإجلال، وصلى الله على نبيه ورسوله، وصفيه وخيرته من خلقه وخليله المفضال سيدنا أبي القاسم محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، خير صحب وآل، وبعد:
فإنه عن لي بمشيئة الله تعالى أن أؤرخ في زماني مما عاينته، وبلغني مما استثبته، لأن في ذكر التواريخ معتبرا، وفيها عن الغرور بالدنيا مزدجرا، لا سيما إذا
(١) «المذيل»: ٢/ ١٥، وقد توفي في (١٠) شوال سنة (٦٢٦ هـ/ ١٢٢٩ م).