أن "الرجل" ليس مكانًا للعيب في الحقيقة، ولا اليد مكانًا للدار. وتقول:"أتيته في عُنفُوانِ شَبابه، وفي أمْره ونَهْيِه"، فهو تشبيةٌ، وتمثيلٌ، أي: هذه الأُمور قد أحاطت به.
وكذلك:"نَظَرَ في الكتاب"، و"سَعَى في الحاجة"، جعل "الكتاب" مكانًا لنَظَره، و"الحاجة" مكانًا لسَعْيه، إذ كان مختصًّا بها. ومن ذلك قولهم:"في هذا الأمر شَكٌّ"، جُعل "الأمر" كالمكان لاشتماله على الشكّ. ومنه قوله تعالى:{أَفِي اللَّهِ شَكٌّ}(١) رَاجعٌ إلى ما ذكرنا، أي: شكّ مختصٌّ به، وإنّما أُخرج على طريق البلاغة هذا المُخْرَجَ، فكأنّه قيل:"أفي صفاته شكٌّ؟ " ثمَّ أُلغيت الصفات للإيجاز. وإنما قلنا هذا، لأنه لا يجوز عليه سبحانه تشبيةٌ لا حقيقةً، ولا بلاغةً، ولهذا كان على تقديرِ: أفي صفاته الدالّةِ عليه شك.
وأما قوله تعالى:{وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}(٢)، فليست في معنى "عَلى" على ما يظنّه مَن لا تحقيقَ عنده، وإنّما لمّا كان الصلب (٣) بمعنى الاستقرار والتمكّن، عُدّي بـ "في" كما يُعدَّى الاستقرار، فكما يُقال:"تمكّن في الشجرة"، كذلك ما هو في معناه، نحوُ قول الشاعر [من الكامل]:
١٠٧١ - بَطَلٌ كأنّ ثِيابَه في سَرْحَةٍ ... يُحْذَى نِعالَ السِّبْتِ ليس بتَوْأمِ
(١) إبراهيم: ١٠. (٢) طه: ٧١. (٣) في طبعة ليبزغ: "وإنما كان الصلب" وفي الطبعة المصريّة: "ولما كان الصلب" .. ولعلّ الصواب ما أثبتناه. ١٠٧١ - التخريج: البيت لعنترة في ديوانه ص ٢١٢؛ وأدب الكاتب ص ٥٠٦؛ والأزهية ص ٢٦٧؛ وجمهرة اللغة ص ٥١٢، ١٣١٥؛ وخزانة الأدب ٩/ ٤٨٥، ٤٩٠؛ وشرح شواهد المغني ١/ ٤٧٩؛ والمنصف ٣/ ١٧؛ وبلا نسبة في الخصائص ٢/ ٣١٢؛ ورصف المباني ص ٣٨٩؛ وشرح الأشموني ٢/ ٢٩٢. اللغة: السرحة: الشجرة العظيمة العالية. يحذى: يلبس حذاء. السبت: الجد المدبوغ بالقرظ؛ والقرظ ورق شجر السَّلم يُدبغ به الأدَمُ. المعنى: إنه بطل صنديد، عظيم الجسم، ثيابه صغيرة قياسًا على علوّ همته، كأنّها معلّقة على شجرة، يلبس النعال الجلدية المدبوغة بالقرظ (أي هو غني من الأشراف)، لا مثيل له. الإعراب: "بطل": خبر مرفوع بالضمّة لمبتدأ محذوف، بتقدير: (هو بطل). "كأن": حرف مشبّه بالفعل. "ثيابه": اسم "كأنّ" منصوب بالفتحة، والهاء: ضمير متصل في محلّ جرّ مضاف إليه. "في سرحة": جار ومجرور متعلقان بخبر "كأنّ" المحذوف، بتقدير: (كأنّ ثيابه معلّقة في سرحة). "يُحذى": فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع بضمّة مقدّرة على الألف، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره: هو. "نعال": مفعول به ثان منصوب بالفتحة. "السبت": مضاف إليه مجرور بالكسرة. "ليس": فعل ماض ناقص، واسمه ضمر مستتر تقديره: هو. "بتوأم": الباء: حرف جرّ زائد، "توأم": مجرور لفظًّا منصوب محلًا على أنه خبر "ليس". جملة "هو بطل": ابتدائية لا محل لها من الإعراب. وجملة "كأن ثيابه ... ": في محل رفع صفة لـ"بطل". وجملة "يحذى": في محل رفع صفة ثانية لـ "بطل".=