تعالي:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}(١)، أي: بعضَها، ومنه:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}(٢). قال أبو العبّاس المبرّد: وليس هو كما قال سيبويه عندي، لأن قوله:"أخذت من ماله" إِنَّما جعل ماله ابتداءَ غايةِ ما أخذ، فدلّ على التبعيض من حيث صار ما بقي انتهاءً له، والأصلُ واحد.
وكونها لتجيين الجنس، كقولك:"ثوبٌ من صُوفٍ"، و"خاتمٌ من حديدٍ". وربما أوهم هذا الضربُ التبعيضَ، ولهذا قلنا: إِنّ مَرْجِعَها إلى شيء واحد. ومنه قوله تعالى:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ}(٣). وذلك أنّ سائر الأرجاس يجب أن تُجتنب، وبين المقصودَ بالاجتناب من أيّ الأرجاس، واعتبارُه أن يكون صفة لِما قبله، وأن يقع موقعَه "الَّذِي"، ألا ترى أن معناه: فاجتنبوا الرجسَ الذي هو وثنٌ. وقد حمل بعضُهم الآية على القلب، أي: الأوثان من الرجس. وفيه تعسّفٌ من جهة اللفظ، والمعنى واحدٌ. وقد قيل في قول سيبويه:"هذا باب عِلْمِ ما الكَلِمُ من العَرَبيّة"(٤) أنّه من هذا الباب؛ لأن الكلم قد تكون عربية، وغير عربية، فبَئنَ جنسَ الكلم بأنّها عربيّةٌ.
وتكون "مِنْ" زائدة، كقوله [من البسيط]:
وما بالرَّبْع مِن أحدِ (٥)
وإنما تزاد في النفي مُخلَّصة للجنس، مؤكّدةً معنى العموم، وقد اشترط سيبويه (٦) لزيادتها ثلاثةَ شرائط:
أحدها: أن تكون مع النكرة.
والثاني: أن تكون عامّة.
والثالث: أن تكون في غير الموجَب، وذلك نحوُ:"ما جاءني من أحدٍ". ألا ترى أنه لا فرق بين قولك:"ما جاءني من أحد"، وبين قولك:"ما جاءني أحدٌ"؛ لأن "أحدًا" يكون للعموم. فأمّا قولك:"ما جاءني من رجل"، فقال الأكثر: لا تكون زائدة على حد زيادتها مع "أحد"؛ لأنها قد أفادت استغراق الجنس، إذ قد يُقال:"ما جاءني رجل"، ويُراد به نفيُ رجل واحد من هذا النوع، وإذا قال:"من رجل" استغرق الجميعَ. وعندي يجوز أن يُقال:"ما جاءني من رجل"، على زيادةِ "مِنْ"، كما يكون كذلك في "ما جاءني من أحد". وذلك أنّه كما يجوز أن يُقال:"ما جاءني رجلٌ"، ويُراد به نفيُ واحد من النوع، كذلك يجوز أن يُقال:"ما جاءني رجلٌ"، ويُراد به نفي الجنس، كما تنفيه
(١) التوبة: ١٠٣. (٢) الأنعام: ١٤١. (٣) الحج: ٣٠. (٤) الكتاب ١/ ١٢١؛ وهذا الباب هو أوّل أبواب الكتاب. (٥) تقدم بالرقم ٣٠١. (٦) انظر الكتاب ٤/ ٢٢٥.