والاعتداءُ في السبت كان من بعضهم، ولم يكن من الكل. ولذا قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ﴾ فمِن: في قوله ﴿مِنْكُمْ﴾ للتبعيض، أَى علمتم اعتداءَهم، أَو علمتموهم بأعيانهم.
واختلف في المراد من قوله: ﴿كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ فقيلَ: إنه على الحقيقة. وإِنَّ الله حولهم قردة. وقِيلَ: إنه مجاز عن مَسخ قلوبهم، وصرفها عن الخير.
وهذا الرأْى أَولى من سابقه. وبه أَخذ بعض السلف.
فقد روى ابن جرير عن مجاهد أَنه قال: "ما مسخت صورهم، ولكن مسخت قلوبهم، فلا تقبل وعظا، ولا تعى زجرا" وذاك على حد تمثيلهم بالحمار في قوله تعالى: "مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا … " (١)
ولا شك أَن الإِنسان الذي ينقاد لشهواته، وليس له وازع من دينه، يمسخ قلبه، فيصبح كالحيوان: منقاد لغرائزه وشهواته كلما دعته.
وفي مثله قوله تعالى: " … إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا" (٢).
والمعنى: فقلنا لهم كونوا أَذلاءَ محتقرين كالقردة. واليهود كذلك فى المجتمعات الفاضلة، ولذا قال عقبه: ﴿خَاسِئِينَ﴾ أَى: أذلاءَ مطرودين، من خسأَ الكلب: بَعُدَ وطُرِدَ.
٦٦ - ﴿فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ … ﴾ الآية.
هذه الآية مرتبة على قوله: "كُونُوا قِرَدَةً" أَى فترتب على عقوبتهم المذكورة: أَن جعلناها نكالا، أَى عبرة تنكل المعتبر بها. أى تمنعه من فعل مثلها،، وتزجره عنه.
والمراد من قوله: ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا﴾ لمعاصرى هذه العقوبة، ومَنْ بعدهم.
وهذا هو المروى عن ابن عباس وغيره.
﴿وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ﴾ أَى: تذكيرا لهم، وهم من يقُون أَنفسهم من عقاب الله من كل أُمة، أَو من أُمة محمد ﷺ أَو من بني إِسرائيل. وخص المتقين، لأَنهم هم الذين ينتفعون بالمواعظ.
(١) الجمعة -من الآية: ٥
(٢) الفرقان -من الآية: ٤٤