وأمَّا الرَّازي فَقَد أطَال النَّفَس في رَدّ دَعْوى النَّسْخ، فَقَال: قَال بَعْضُهم: هَذه الآيَة مَنْسُوخَة، وذَلك لِمَا يُرْوَى عَنْ ابنِ عباس رضي الله عنهما أنه قَال: لَمَّا نَزَلَتْ هَذه الآيَة شَقّ ذَلك عَلى الْمُسْلِمِين؛ لأنَّ حَقّ تُقَاتِه: أن يُطَاع فلا يُعْصَى طَرْفَة عَيْن، وأن يُشْكَر فلا يُكْفَر، وأن يُذْكَر فَلا يُنْسَى، والعِبَاد لا طَاقَة لَهُمْ بِذَلك، فَأنْزَل الله تَعَالى بَعْد هَذه:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، ونَسَخَتْ هَذه الآيَة أوَّلَها ولَم يُنْسَخ آخِرها، وهو قَوله:(وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، وزَعَم جُمْهُور الْمُحَقِّقِين أنَّ القَول بِهَذا النَّسْخ بَاطِل، واحْتَجُّوا عَليه مِنْ وُجُوه:
الأوَّل: مَا رُوي (٢) عن مُعَاذ أنه عليه السلام قَال له: هَلْ تَدْرِي مَا حَقّ الله على العِبَاد؟ قَال: الله ورَسُوله أعْلَم. قال: هُو أن يَعْبُدُوه ولا يُشْرِكُوا به شَيئًا (٣). وهَذا لا يَجُوز أن يُنْسَخ (٤).
الثَّاني: أنَّ مَعْنَى قَوله: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) أي: كَما يَحِقّ أن يُتّقَى، وذَلك بِأن يَجْتَنِب جَمِيع مَعَاصِيه، ومِثْل هَذا لا يَجُوز أن يُنْسَخ؛ لأنه إبَاحَة لِبَعْض الْمَعَاصِي، وإذا كَان كَذلك صَارَ مَعْنى هذا، ومَعْنَى قَوله تَعالى:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وَاحِدًا، لأنَّ مِنْ اتَّقَى الله مَا اسْتَطَاع فَقَد اتَّقَاه حَقّ تُقَاته، ولا يَجُوز أن يَكُون الْمُرَاد بِقَولِه:(حَقَّ تُقَاتِهِ)
(١) المحرر الوجيز، مرجع سابق (١/ ٤٨٢، ٤٨٣) باختصار، ويُنظر: (٥/ ٣٢١) مِنه. (٢) "يُنْكَر على المصنِّف قوله في الحديث: (ورُوي) بصيغة تمريض مع أنه حديث صحيح" قاله النووي في المجموع (١/ ١٥) - ومَقْصُوده بالمصنِّف هو الشيرازي صاحِب المهذّب -. (٣) أوْرَد الرازي الحديث بِمعناه، وهو مُخرّج في الصحيحين. رواه البخاري (ح ٢٧٠١)، ومسلم (ح ٣٠). (٤) لأن النَّسْخ لا يكون في العقائد والأخبار. قال ابن حزم في "الإحكام" (١/ ٤٧٦): والنَّسْخ لا يَقَع في الأخْبَار. وقال القرطبي: النسخ في الأخبار يَستحيل (الجامع لأحكام القرآن ٥/ ٢٤٥، ٢٤٦). وقال الشاطبي: والأخْبار لا يَدخلها النَّسْخ (الموافقات ٣/ ٣٤٥).