أول من زار فيها قبر حافظها الكبير أبي طاهر السلفي، داخل الباب الأخضر (١)، فقد كانت منزلته عنده كمنزلة الشاطبي في القاهرة، ويسعى إلى لقاء أصحابه، فيلتقي منهم في جامعها المقرئ المحدث أبا الفضل جعفر بن علي بن أبي البركات بن جعفر بن يحيى الهمداني (٢)، ويلتقي مقرئ الإسكندرية الشيخ عيسى بن عبد العزيز بن عيسى بن عبد الواحد الإسكندراني، وكانت له مسموعات كثيرة على الحافظ السلفي، وهو من كبار القراء، فيجيزه بجميع ما يرويه (٣).
غير أن الزيارة التي تركت في نفسه أثرا لا يمحى هي زيارته إلى زاهد الإسكندرية الشيخ محمد بن منصور بن يحيى القباري مع جماعة من الفضلاء، كان للشيخ محمد بستان يفلحه ويزرعه بنفسه، ويأكل من ثماره وزرعه، ويتورع في تحصيل بذره، حتى إنه كان إذا رأى ثمرة ساقطة تحت أشجاره، ولا يشاهد سقوطها، يتورع من أكلها، خوفا من أن تكون من شجرة غيره، قد حملها طائر، فسقطت منه في بستانه.
حين زاره أبو شامة كان الشيخ محمد في الواحدة والأربعين من عمره، وقد وافقه يسقي بستانه في جرار ماء من الخليج على حمار له، وكان الماء في الخليج قليلا، قال أبو شامة:«فأجلسنا إلى أن تم عمله، ثم قدم لنا من ثمر غيطه، وكذا كانت عادته مع كل من يزوره من الملوك وغيرهم»(٤).
وستبقى صورة هذا الشيخ المترفع عن الدنيا وحطامها، الزاهد بما في أيدي الناس، القانع بما تخرجه أرضه من ثمار، في ذاكرة أبي شامة، وسيكون له تأثير عليه في القادم من أيامه (٥).
(١) «كتاب الروضتين»: ٣/ ٥٤. (٢) «المذيل»: ٢/ ٤٧ - ٤٦. (٣) «المذيل»: ٢/ ٢٥، وانظر ترجمته في «معرفة القراء الكبار»: ٣/ ١٢٠٦ - ١٢١٣، و «سير أعلام النبلاء»: ٢٢/ ٣١٥. (٤) «المذيل»: ٢/ ١٩٨ - ١٩٩. (٥) انظر ص ١٩٠ من هذا الكتاب.