لأنَّه قد تقدَّمَ وصْفُ الرسول المَلَكِي بالأمانة، ثُمَّ قال: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢)﴾، ثُمَّ قال: ﴿وَمَا هُوَ﴾ أي: وما صاحبكم بمُتَّهَمٍ ولا بخيلٍ.
واختار أبو عبيد (١) قراءة "الظَّاء"؛ لمعنيين:
أحدهما: أنَّ الكفَّارَ لم يُبَخِّلُوه، وإنَّما اتَّهَموه، فَنَفْيُ التُّهْمَةِ أَولى من نَفْي البخل.
الثاني: أنَّه قال: ﴿عَلَى الْغَيْبِ﴾، ولو كان المراد البخل لقال: بالغيب؛ لأنَّه يقال: فلانٌ ضَنِينٌ بكذا، وقَلَّما يقال: على كذا.
قلت: ويرجِّحُه أنَّه وَصَفَهُ بما وصف به رسولَهُ المَلَكِيَّ من الأمانة، فنَفَى عنه التُّهْمَةَ كما وصفَ جبريلَ بأنَّه أمينٌ.
ويرجِّحُه - أيضًا - أنَّه - سبحانه - نفَى أقسام الكذب كلِّها عمَّا جاء به من الغيب، فإنَّ ذلك لو كان كذبًا: فإمَّا أن يكون منه، أو ممَّن علَّمه.
وإن كان منه: فإمَّا أن يكون تعمَّدَهُ، أو لم يتعمَّدْهُ.
فإن كان من معلِّمه فليس هو بشيطانٍ رجيمٍ، وإن كان منه مع التعمُّد فهو المتَّهَمُ - ضد الأمين -، وإن كان عن غير تعمُّدٍ فهو المجنون.
فنفَى - سبحانه - عن رسوله ذلك كلَّهُ، وزكَّى سَنَدَ القرآن أعظم التزكية، فلهذا قال سبحانه: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (٢٥)﴾ أي: ليس بتعليم الشيطان، ولا يقدر عليه، ولا يَحْسُنُ منه كما قال تعالى: ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (٢١٠) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (٢١١)﴾ [الشعراء: ٢١٠، ٢١١]، فنَفَى
(١) من (ح) و (م)، وفي باقي النسخ: أبو عبيدة. وانظر: "الجامع" (١٩/ ٢٤٠).