تميَّزَتِ الحروفُ بعضُها عن (١) بعضٍ، ثُمَّ أَلْهَمَ العبدَ تركيبَ تلك الحروف ليؤدِّي بها عن "القلب" ما يأمر به.
فتأمَّلْ هذه الحكمةَ الباهِرَةَ؛ حيث لم يُضِعْ - سبحانه - ذلك النَّفَسَ المُسْتَغْنَى عنه (٢) المُحْتَاجَ إلى دَفْعه وإخراجه، بل جَعَلَ فيه - إذا استُغْنِي عنه - منفعةً ومصلحةً هي من أكمل المنافع والمصالح. فإنَّ المقصود الأصليَّ من النَّفَس هو إيصالُ (٣) النَّسِيمِ البارِدِ إلى "القلب". فأمَّا إخراجُ النَّفَس فهو جارٍ مَجْرَى دَفْع الفَضْلَةِ الفاسدةِ، فصَرَفَ ذلك - سبحانه - إلى رعايةٍ تُصْلِحُهُ، ومنفعةٍ أخرى، فجعله سببًا للأصوات والحروف والكلام.
ثُمَّ إنَّه - سبحانه - جعل "الحَنَاجِر" مختلفة الأشكال في الضِّيقِ، والسَّعَة، والخُشُونة، والمَلَاسَة؛ لتختلف الأصواتُ باختلافها، فلا يتشابه صوتان، كما لا تتشابه صورتان.
وهذا من أظهر الأدلَّة؛ فإنَّ هذا الاختلاف - الذي بين الصُّوَر والأصوات على كثرتها وتعدُّدها، فَقَلَّما يشتبه صوتان أو صورتان - ليس في الطبيعة ما (٤) يقتضيه، وإنَّما هو صُنْعُ الله الذي أتقنَ كلَّ شيءٍ، وأحسن كلَّ شيءٍ خَلَقه، فتبارك الله ربُّ العالمين، وأحسن الخالقين. فميَّزَ - سبحانه - بين الأشخاص بما يُدْرِكُه السَّمع والبصر.
(١) "بعضها عن" ملحق بهامش (ك). (٢) من (ط)، وسقط من باقي النسخ. (٣) في جميع النسخ: اتصال، وهو تصحيف. (٤) كلمة "ما" ساقطة من (ز) و (ك).