أحبّ أن يحضر دار الأمير فليحضر. وتفتح الأبواب، ويدخل النّاس الميدان وابن طولون في المجلس الذي تقدّم ذكره ينظر إلى المساكين، ويتأمّل فرحهم بما يأكلون ويحملون، فيسرّه ذلك ويحمد اللّه على نعمته (١).
ولقد قال له مرّة إبراهيم بن قراطغان، وكان على صدقاته: أيّد اللّه الأمير، إنّا نقف في المواضع التي تفرّق فيها الصّدقة، فتخرج لنا الكفّ الناعمة المخضوبة نقشا، والمعصم الرائع فيه الحديدة، والكفّ فيها الخاتم. فقال: يا هذا، كلّ من مدّ إليك يده فأعطه، فهذه هي اللطيفة المستورة التي ذكرها اللّه ﷾ في كتابه فقال: ﴿يَحْسَبُهُمُ اَلْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ اَلتَّعَفُّفِ﴾ [الآية ٢٧٣ سورة البقرة]، فاحذر أن تردّ يدا امتدّت إليك، وأعط كل من يطلب منك.
فلمّا مات أحمد بن طولون، وقام من بعده ابنه خمارويه، أقبل على [عمارة] (a) قصر أبيه وزاد فيه، وأخذ الميدان الذي كان لأبيه فجعله كلّه بستانا، وزرع فيه أنواع الرّياحين وأصناف الشّجر، ونقل إليه الودى اللطيف الذي ينال ثمره القائم، ومنه ما يتناوله الجالس من أصناف خيار النّخل، وحمل إليه كلّ صنف من الشجر المطعّم العجيب وأنواع الورد، وزرع فيه الزّعفران؛ وكسا أجسام النّخل نحاسا مذهّبا حسن الصّنعة، وجعل بين النّحاس وأجساد النّخل مزاريب الرّصاص، وأجرى فيها الماء المدبّر، فكان يخرج من تضاعيف قائم النّخل عيون الماء؛ فتنحدر إلى فساقي معمولة، ويفيض منها الماء إلى مجار تسقي سائر البستان. وغرس فيه من الرّيحان المزروع على نقوش معمولة وكتابات مكتوبة، يتعاهدها البستانيّ بالمقراض حتى لا تزيد ورقة على ورقة، وزرع فيه النّيلوفر الأحمر والأزرق والأصفر والخيري (b) العجيب، وأهدي إليه من خراسان وغيرها كلّ أصل عجيب، وطعموا له شجر المشمش باللّوز، وأشباه ذلك من كلّ ما يستظرف ويستحسن (٢).
وبنى فيه برجا من خشب السّاج المنقوش بالنقر النافذ [وطعّمه] (a) ليقوم مقام الأقفاص، وزوّقه بأصناف الأصباغ، وبلّط أرضه، وجعل في تضاعيفه أنهارا لطافا، جداولها يجري فيها الماء مدبرا من السّواقي التي تدور على الآبار العذبة، ويسقي منها الأشجار وغيرها.
(a) زيادة من النجوم الزاهرة. (b) بولاق: الجنوي. (١) أبو المحاسن: النجوم الزاهرة ١٧: ٣. (٢) أبو المحاسن: النجوم الزاهرة ٥٣: ٣ - ٥٤.