فلم يَكُنْ تَعالى لِيَمْتَنّ عليهم بِجَزَاء لا يَحْصُل لهم، وأيضًا فإنَّه إذا كَان يُجَازِي كَافِرهم بِالنَّار - وهو مَقَام عَدْل - فلأن يُجَازِي مُؤمِنهم بِالْجَنَّة - وهو مَقَام فَضْل - بِطَرِيق الأَوْلى والأَحْرَى.
ومِمَّا يَدُلّ أيضًا على ذلك عُمُوم قَوله تَعالى:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا)[الكهف: ١٠٧]، ومَا أشْبَه ذلك مِنْ الآيَات … وهَذه الْجَنَّة لا يَزَال فِيها فَضْل حَتى يُنْشِئ الله تَعالى لها خَلْقًا، أفَلا يَسْكُنها مَنْ آمَن بِه وعَمِل لَه صَالِحًا؟
ومَا ذَكَرُوه هاهنا مِنْ الْجَزَاء على الإيمان مِنْ تَكْفِير الذُّنُوب والإجَارَة مِنْ العَذَاب الألِيم هو يَسْتَلْزِم دُخُول الْجَنَّة؛ لأنَّه ليس في الآخِرَة إلَّا الْجَنَّة أو النَّار، فَمَنْ أُجِير مِنْ النَّار دَخَل الْجَنَّة لا مَحَالَة، ولم يَرِد مَعَنا نَصّ صَرِيح ولا ظَاهِر عن الشَّارِع أن مُؤمِنِي الْجِنّ لا يَدْخُلُون الْجَنَّة وإن أُجِيرُوا مِنْ النَّار، ولَو صَحّ لَقُلْنا بِه، والله أعلم (٢).
ولم يَذكر ابن كثير شَيئًا مِنْ ذلك في تَفْسِير آيَة "الرحمن"(٣).
وفي آيَات سُورة "الْجِنّ" ذَكَر قول ابن عباس ومجاهِد وغَير وَاحِد: (كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا).
(١) قال الهيثمي (المجمع ٧/ ١١٧): رواه البزار عن شيخه عمرو بن مالك الراسبي، وثقه ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح. وقال السيوطي في الدُّر (٧/ ٦٩٠): وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر والدارقطني في الأفْراد وابن مردويه والخطيب في تاريخه بسند صحيح - ثم ذكروه -. ورواه الترمذي بنحوه في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن على الجن، وتقدم تخريجه. (٢) تفسير القرآن العظيم، مرجع سابق (١٣/ ٥٣ - ٥٥). (٣) انظر: المرجع السابق (١٣/ ٣٢٣).