وإذا كانت الآية لا تنفي وجوبَ المُصابرة لِمَا زاد على الضِّعفين في كل حال، فأنْ لا تنفِي الاستحبابَ [و] الجوازَ مُطلقًا أوْلَى وأحْرَى.
فإن قيل: قد قال الله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(١).
وإذا قاتل الرجل في موضع فغَلَبَ على ظنه أنه يُقْتَل فقد أَلْقَى بيده إلى التهلكة.
[قيل]: تأويل الآية على هذا غلط، ولهذا ما زال الصحابة والأئمة يُنْكِرون على من يتأوَّل الآية على ذلك، كما ذكرنا أنَّ رجلاً حَمَلَ وحْدَه على العدو، فقال الناس: ألقى بيده إلى التهلكة، فقال عمر ابن الخطاب: كلَاّ ولكنه مِمَّن قال الله فيه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ)(٢).
وأيضًا فقد روى أبو داود والنسائي والترمذي (٣) من حديث يزيد ابِن أبي حبيب -عالمِ أهل مصرَ من التابعين- عن أسلم أبي عِمرانَ قال: غزَوْنا بالمدينة نُريدُ القُسطنطينيَّةَ وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والرُّومُ مُلصقُو ظهورهم بحائطِ المدينة، فحَمَلَ رجلٌ على العدوِّ؛ فقال الناس: لا إلهَ إلا الله! يُلْقِي بيدِه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: إنما نَزَلَتْ هذه الآية فينا معشر الأنصار، لمَّا نَصَرَ الله نبيَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأَظْهَرَ الإسلامَ قلنا: هَلُمَّ نُقِمْ في أموالِنا ونُصلِحْها، فأنزل الله عز وجل:
(١) سورة البقرة: ١٩٥. (٢) سورة البقرة: ٢٠٧. (٣) أخرجه أبو داود (٢٥١٢) والنسائي في الكبرى (٢٩٩، ١٠٢٩) والترمذي (٢٩٧٢).