لقد تهيأتْ بعضُ الظروفِ التي أسهمتْ وساعدتْ في نشأةِ المذاهب الفقهيةِ، وبالنظرِ والتأمّلِ في المذاهب، فقد ظَهَرَ لي عددٌ مِن الأسباب التيَ يمكنُ القولُ إنَّها أسبابٌ لنشوئها.
السبب الأول: اختلافُ الأصولِ والمناهج التي سار عليها المجتهدون.
فالأدلةُ المستَدَّلُ بها، وطُرُقُ الاستنباطِ منها، والمنهجُ المتبعُ عند تعارضِها، أمورٌ تختلفُ مِنْ مجتهدٍ إلى آخر، ومِنْ مدرسةٍ فقهيةٍ إلى أخرى (١) - وإنْ كان هناك نوعُ تقاربٍ بين بعض المجتهدين - الأمر الذي يدعو إلى تمايزِ مناهجِ المجتهدين، ولَفْتِ نَظَرِ تلامذتِهم إليه، وهو داع إلى استقلالِ المجتهدِ بمذهبٍ، له أصولُه وفروعُه المستقلةُ.
فمثلًا: إذا كان المجتهدُ يحتجُّ بالحديثِ المرسلِ (٢) وفقَ شروطٍ معينةٍ
(١) انظر: تأريخ التشريع للدكتور عبد الله الطريقي (ص/ ٢٣٤)، والجديد في تاريخ الفقه للدكتور محمد إمبابي (ص/ ١٤٠). (٢) المرسل عند الأصوليين: أنْ يقول غيرُ الصحابي قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا. انظر: الحدود للباجي (ص/ ٦٣)، وتقريب الوصول لابن جزي (ص/ ٣٠٥)، وشرح الكوكب المنير (٢/ ٥٧٤)، وفواتح الرحموت (٢/ ١٧٤)، ونشر البنود (٢/ ٦٠). وعند المحدثين: ما سقط منه مِن منتهاه ذكر الصحابي، كأنْ يقول التابعي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا. انظر: الاقتراح في بيان الاصطلاح لابن دقيق العيد (ص/ ٢٠٨)، والمعيار في الأحاديث الضعيفة والموضوعة لتاج الدين التبريزي (١/ ١٨)، ونزهة النظر لابن حجر (ص/ ١٠٩ - ١١٠)، وفتح الميث للسخاوي (١/ ٢٣٨)، وتوضيح الأفكار للصنعاني (١/ ٢٨٣).