تدوين المذاهبِ واستقرارِها (١)؛ إذ كان سبيلُ وصولِ كثيرٍ منهم إلى درجةِ الاجتهادِ في الشريعةِ هو الترقي في سُلّمِ المذهبِ (٢).
ويمكنُ القولُ: إنَّه إذا سارَ المتمذهبُ في مذهبِه متدرجًا مترقيًا فيه، متعلّمًا منه (٣)، مع اهتمامِه وعنايتِه ببقيةِ أوصافِ الاجتهادِ وشروطِه: كالعلمِ بالعربيةِ ونحوها، وكان مع ذلك مهتمًا بتحقيقِ المسائلِ بأقوالِها وأدلتِها، مع عنايته بالأصولِ، والسيرِ عليها، وكانت لديه قريحةٌ جيدةٌ، وعلوٌّ في الهمةِ: فالغالبُ وصولُه إلى مرتبةِ المجتهدين والتحاقُه بهم (٤).
يقولُ القاضي عياض بعدما حثَّ الطالبَ على سلوكِ المذهب في طلب العلمِ:"فسبيلُه أنْ يُقلِّد مَنْ يُعَرِّفه أنَّ هذا هو الحقّ، حتى إذا أَدْرَكَ مِن العلَمِ ما قُيّض له، وحَصَلَ منه ما قَسَمَ اللهُ له، وأفلح، وكان فيه محلٌّ للنظرِ والاجتهادِ: انتقل إلى ذلك - أي: إلى درجة المجتهدين - وأدركه"(٥).
ويقولُ أكملُ الدين البابرتي:"إنَّما يحصلُ منصبُ الاجتهادِ بممارسةِ تفاريعِ (٦) في زمانِنا، ولم يكنْ ذلك طريقًا في زمنِ الصحابةِ"(٧).
ويقولُ ابنُ مَلَك (٨) في الموضوعِ ذاتِه: "منصبُ الاجتهادِ في زمانِنا إنَّما
(١) انظر: مراعاة الخلاف لعبد الرحمن السنوسي (ص/ ١١٥). (٢) انظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض (١/ ٦٣)، ورسائل الإصلاح لمحمد الخضر حسين (٢/ ١١٥). (٣) انظر: المعيار المعرب للونشريسي (٦/ ٣٥٣). (٤) انظر: المجموع شرح المهذب للنووي (١/ ٣٩)، والاجتهاد ومدى حاجتنا إليه للدكتور سيد الأفغاني (ص/ ٥٤٤). (٥) ترتيب المدارك (١/ ٦٣). (٦) يظهر أنَّ في الكلام كلمةً ساقطة، ولعل الصواب: "تفاريع الفقه". (٧) التقرير لأصول فخر الإسلام البزدوي (٦/ ٢٦٣). (٨) هو: عبد اللطيف بن عبد العزيز بن أمين الدين بن فرشتا، الملقب بعز الدين، المعروف بابن ملك - المشهور بابن فرشتا أي: ابن الملك - كان فقيهًا حنفيا، وأصوليًّا متمكنًا، وعالمًا فاضلًا، مبرزًا في حلِّ عويصات العلوم، متصوفًا محبوبًا عند العامة والخاصة، من مؤلفاته: مبارق الأنوار شرح مشارق الأنوار، وشرح المنار، ورسالة في علم التصوف، وشرح مجمع =