والآية تدل على أنه - عليه السلام - خيرهن بين الدنيا والآخرة، فإن اخترن الدنيا طلقهن، وإن اخترن الآخرة كن على ما كن عليه ولم يلزمه مفارقتهن، ألا تراه سبحانه قال: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى آخر الآية، فلما اخترنه لم يلزمه - عليه السلام - التسريح الذي أوجبه على نفسه (١).
وقد يجوز أن يقول قائل: إنهن لو أخترن الدنيا، أن يقع الطلاق باختيارهن، وهذا يحتاج إلى حجة من كتاب الله عز وجل أو سنة، إذ الآية لا توجب وقوع الطلاق، وما روي عن عائشة: اخترناه فهل كان ذلك طلاقا، إنما ذكر ليدفع به شيء ضعيف روي من طريق ضعيفة عن علي، وعلي ـ رحمه الله ـ يرتفع عن قوله: زعموا أن الرجل إذا خير امرأته فاختارته كانت طلقة وإذا اختارت نفسها كانت ثلاثا (٢)، وهذا ما لا يجوز في عقل، والله أعلم.
قال الله تبارك وتعالى:{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}(٣)
أما قوله:{الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} فإن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لا أُولى إلا ولها آخرة (٤)، والأول ـ والله أعلم ـ ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما، والآخرة: جهل قريش في محاربتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبه وإخراجه عن مكة.
(١) وهذا المعنى الذي ذكر المؤلف قد قرره ابن العربي في أحكام القرآن (٣/ ٥٥٨). (٢) أخرجه عبد الرزاق [٧/ ٩ كتاب النكاح، باب الخيار] عن ابن التيمي عن إسماعيل بن أبي خالد الشعبي، ومن طريق الثوري عن مخول عن أبي جعفر محمد بن علي به. وأخرجه ابن أبي شيبة [٤/ ٨٨ كتاب الطلاق، ما قالوا في الرجل يخير امرأته .. ] والبيهقي [٧/ ٣٤٥ كتاب الخلع والطلاق، باب ما جاء في التخيير] من طريق عيسى بن عاصم عن زاذان بنحوه. (٣) سورة الأحزاب (٣٣). (٤) أخرجه الطبري (١٠/ ٢٩٥).