ثم أَخبر تعالى أَنَّ أَكثرَ الجنود شربوا من النهر، وقليلٌ منهم لم يشرب، وهؤلاء القليل منهم من لم يَطعَم الماء، ومنهم مَنْ اغترف غُرفةً بيده، فصار جنودُ طالوت ثلاثَ طوائف:
طائفةٌ شربوا: قيل معناه: كرعوا (١) يشربون من النهر بأَفواههم، وهؤلاء هم الأكثرون، قيل: كان الجنودُ ثمانينَ ألفًا، فشرب منهم ستةٌ وسبعون ألفًا (٢).
والطائفةُ الثانيةُ: هم الذين لم يَطعموا ماءَ النهر.
والثالثةُ: هم الذين اغترفوا غرفةً واحدةً، وقُرئَ بفتح الغين من {غَرْفَةً}، وبضمِّها (٣)، واختار ابنُ جرير قراءةَ ضم الغين وقال: هي اسمٌ للماء المغترَف بالكف، وبالفتح هي: المرَّةُ من الغرف؛ بمعنى: الاغتراف (٤).
وأَخبر تعالى أَنَّ طالوتَ ومَن ثبتَ معه -وهم: الطائفةُ الثانيةُ والثالثةُ- لَمَّا جاوزوا النهرَ ضَعُفَ أَكثرُهم وخافوا من العدو، وقالوا:{لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ}، فثبَّتهم إخوانُهم الموقنون بوعد الله، الذين يظنُّون أَنهم مُلاقو الله؛ فقالوا لهم: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِين (٢٤٩)}، وذلك قولُه تعالى:{فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ}؛ أَي: جاوز طالوتُ النهرَ، والذين معه؛ أَي: جاوزوا النهرَ، فعُلم بذلك أَنَّ الذين شربوا من النهر ردَّهم طالوتُ وبقي معه الذين لم يشربوا، لكنَّ أكثرَهم هابوا القتال فنَصحَهم إِخوانُهم فثبتوا وبرزوا لقتال جالوت وجنوده؛ أَي: صاروا في
(١) الكرع: أن يشرب الرجل بفيه من النهر غير أن يشرب بكفيه أو بإناء. «تهذيب اللغة» (١/ ٢٠١). (٢) قاله السدي. ينظر: «تفسير الطبري» (٤/ ٤٨٧ - ٤٨٨). (٣) قرأ أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو: {غَرْفَةً} بفتح الغين. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف: {غُرْفَةً} بضمها. ينظر: «السبعة» لابن مجاهد (ص ١٨٦ - ١٨٧)، و «النشر في القراءات العشر» (٢/ ٢٣٠). (٤) ينظر: «تفسير الطبري» (٤/ ٤٨٦).