أَمَّا المَكْرُوهُ مِنْهَا وَالمُحَرَّمُ فَمُسَلَّمٌ مِنْ جِهَةِ كَونِهَا بِدَعًا لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، إِذْ لَو دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْعِ أَمْرٍ مَا، أَو كَرَاهَتِهِ، لَمْ يُثْبِتْ ذَلِكَ كَونَهُ بِدْعَةً؛ لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً كَالقَتْلِ وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الخَمْرِ وَنَحْوِهَا! فَلَا بِدْعَةَ يُتَصَوَّرُ فِيهَا ذَلِكَ التَّقْسِيمُ أَلْبَتَّةَ إِلَّا الكَرَاهِيَةَ وَالتَّحْرِيمَ" (١).
وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا نُقِلَ عَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ، فَقَدْ رَوَى الحَافِظُ أَبُو نُعَيمٍ الأَصْبَهَانِيُّ فِي (الحِلْيَةِ) عَنِ الشَّافِعِيِّ قَولَهُ: " البِدْعَةُ بِدْعَتَانِ: بِدْعَةٌ مَحْمُودَةٌ، وَبِدْعَةٌ مَذْمُومَةٌ، فَمَا وَافَقَ السُّنَّةَ فَهُوَ مَحْمُودٌ، وَمَا خَالَفَ السُّنَّةَ فَهُوَ مَذْمُومٌ" وَاحْتَجَّ بِقَولِ عُمَرَ: " نِعْمَتِ البِدْعَةُ هَذِهِ" (٢).
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: " وَمُرَادُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللهُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قَبْلُ: أَنَّ البِدْعَةَ المَذْمُومَةَ مَا لَيسَ لَهَا أَصْلٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ يُرْجَعُ إِلَيهِ، وَهِيَ البِدْعَةُ فِي إِطْلَاقِ الشَّرْعِ، وَأَمَّا البِدْعَةُ المَحْمُودَةُ فَمَا وَافَقَ السُّنَّةَ، يَعْنِي: مَا كَانَ لَهَا أَصْلٌ مِنَ السُّنَّةِ يُرْجَعُ إِلَيهِ، وَإِنَّمَا هِيَ بِدْعَةٌ لُغَةً لَا شَرْعًا؛ لِمُوَافَقَتِهَا السُّنَّةَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ كَلَامٌ آخَرُ يُفَسِّرُ هَذَا؛ وَأَنَّهُ قَالَ: وَالمُحْدَثَاتُ ضَرْبَانِ: مَا أُحْدِثَ مِمَّا يُخَالِفُ كِتَابًا، أَو سُنَّةً، أَو أَثَرًا، أَو إِجْمَاعًا؛ فَهَذِهِ البِدْعَةُ الضَّلَالُ، وَمَا أُحْدِثَ فِيهِ مِنَ الخَيرِ لَا خِلَافَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْ هَذَا؛ وَهَذِهِ مُحْدَثَةٌ غَيرُ مَذْمُومَةٍ" (٣).
(١) الاعْتِصَامُ للشَّاطِبِي (١/ ٢٤٦).(٢) حِلْيَةُ الأَوْلِيَاءِ (٩/ ١١٣).(٣) جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (٢/ ١٣١).قُلْتُ: وَأَثَرُ الشَّافِعِيِّ الأَخِيرُ أَخْرَجَهُ البَيهَقِيُّ فِي كِتَابِهِ (مَنَاقِبُ الشَّافِعِيِّ) (١/ ٤٦٩).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute