ولما أذعن يوسف صاحب الأندلس لعبد الرحمن، واستقر ملكه، واستحضر الوُفُود إلى قرطبة، فانثالوا١ عليه، ووالى القعود لهم في قصره عدة أيام، في مجالس يكلم فيها رؤساءهم ووجوههم، بكلام سَرَّهم، وطيَّب نفوسهم.
وفي بعض مجالسهم هذه مَثَل بيد يديه رجل من جند قِّنِسْرِين٢ يستجديه، فقال له:
"قد سمعنا مقالتك، وقضينا حاجتك، وأمرنا بعونك على دهرك، على كُرْهنا لسوء مقامك، فلا تعودَنَّ ولا سِواك لمثله، من إراقة ماء وجهك بتصريح المسألة، والإلحاف في الطِّلْبة٥، وإذا أَلَمَّ بك خَطْبٌ، أو حَزَبَك٦ أمر، فارفعه إلينا في رقعة لا تعْدُوك، كيما نستر عليك خَلَّتك، ونكُفُّ شمات العدو عنك، بعد رفعك لها إلى مالِكِك ومالِكِنا -عز وجهه- بإخلاص الدعاء، وصدق النية".
١ انثال: انصب، أي تتابعوا وتوافدوا عليه. ٢ بالشام. ٣ شعث الأمر: نشره وفرقه. ٤ الرفد: العطاء والصلة. ٥ الطلبة: الطلب. ٦ أي اشتد عليك، والخلة الحاجة.