قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ: كان عبد الملك بن مروان سنان قريش وسيفها رأيا وحزما، وعابدها قبل أن يستخلف ورعا وزهدا، فجلس يوما فى خاصّته فقبض على لحيته فشمّها مليّا، ثم اجترّ نفسه، ونفخ نفخة أطالها، ثم نظر فى وجوه القوم فقال: «ما أقول يوم ذى المسألة عن أمر الحجاج، وأدحض المحتجّ على العليم (٣) بما طوته الحجب؟ أما إنّ تمليكى له قرن بى لوعة يحثّها التّذكار! كيف وقد علمت فتعاميت، وسمعت فتصاممت، وحمله الكرام الكاتبون! والله لكأنى آلف ذا الطّعن على نفسى، بعد أن نعت الأيام بتصرّفها أنفسا حقّ لها الوعيد بتصرّم الزوال، وما أبقت الشّبهة للباقى متعلّقا، وما هو إلا الغلّ الكامن، والغشّ المندمل من ذى النفس بجوبها (٤)
، اللهم أنت لى أوسع، غير منتصر ولا معتذر» يا كاتب، هات الدّواة والقرطاس، فقعد كاتبه بين يديه وأملى عليه:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف، أما بعد، فقد أصبحت بأمرك برما (٥)، يقعدنى الإشفاق، ويقيمنى الرجاء، عجزت فى دار السّعة، وتوسّط الملك، وحين المهل، واجتماع الفكر، ألتمس العذر فى أمرك،
(١) قاتله الله: قتله، وقيل لعنه. وقيل عاداه. (٢) تصغير أخفش، وقد تقدم معناه. (٣) أدحضت حجته: أبطلتها. على العليم أى على الله العليم. (٤) الحوباء روع القلب بضم الراء أى سواده، قال الشاعر: «ونفس تجود بحوبائها». والحوبا أيضا: النفس. (٥) برم به كفرح: ضجر.