قَالَ الحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الحَنْبَلِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: " وَمَتَى نَوَى الْمُؤْمِنُ بِتَنَاوُلِ شَهَوَاتِهِ الْمُبَاحَةِ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ؛ كَانَتْ شَهَوَاتُهُ لَهُ طَاعَةً يُثَابُ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: " إِنِّي لَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي" (١)، يَعْنِي: أَنَّهُ يَنْوِي بِنَوْمِهِ التَّقَوِّي عَلَى الْقِيَامِ فِي آخِرِ اللَّيْلِ؛ فَيَحْتَسِبُ ثَوَابَ نَوْمِهِ كَمَا يَحْتَسِبُ ثَوَابَ قِيَامِهِ" (٢).
- فِي قَولِهِ تَعَالَى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكَهْف: ٧]: بَيَانُ أَنَّ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا هِيَ ابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ جَعَلَهُ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِيَنْظُرَ سُبْحَانَهُ أَيَّهُم كَانَ مُؤْمِنًا بِوَعْدِ رَبِّهِ فَأَخَذَ مِنْ دُنْيَاهُ لِآخِرَتِهِ، وَأَيُّهُم عَاشَ لِدُنْيَاهُ وَنَسِيَ آخِرَتَهُ، ثُمَّ أَعْقَبَ تَعَالَى عَنْ هَذِهِ الدُّنْيَا بِبَيَانِ فَنَائِهَا فَقَالَ: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيهَا صَعِيدًا جُرُزًا} (٣)، فَكَانَ الفَائِزُ فِي هَذَا الامْتِحَانِ هُوَ مَنْ اشْتَغَلَ بِآخِرَتِهِ وَلَمْ يَنْشَغِلْ بِدُنْيَاهُ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: {يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ} [غَافِر: ٣٩]، قَالَ سَعِيدُ ابْنُ جُبَيرٍ: " مَتَاعُ الغُرُورِ: مَا يُلْهِيكَ عَنْ طَلَبِ الآخِرَةِ، وَمَا لَمْ يُلْهِكَ فَلَيسَ بِمَتَاعِ الغُرُورِ؛ وَلَكِنَّهُ مَتَاعُ بَلَاغٍ إِلَى مَا هُوَ خَيرٌ مِنْهُ" (٤).
فَكَانَ الفَائِزُ هُوَ مَنْ جَعَلَ هَمَّهُ التَّزَوُّدَ مِنْهَا لِلآخِرَةِ الَّتِي هِيَ دَارُ القَرَارِ، وَاكْتَفَى مِنَ الدُّنْيَا بِمَا يَكْتَفِي بِهِ المُسَافِرُ فِي سَفَرِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
(١) وَهُوَ بِتَمَامِهِ «أَنَامُ أَوَّلَ اللَّيلِ فَأَقُومُ وَقَدْ قَضَيتُ جُزْئِي مِنَ النَّومِ؛ فَأَقْرَأُ مَا كَتَبَ اللهُ لِي؛ فَأَحْتَسِبُ نَومَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَومَتِي». رَوَاهُ البُخَارِيُّ (٤٣٤١) عَنْ أَبِي بُرْدَةَ.(٢) جَامِعُ العُلُومِ وَالحِكَمِ (٢/ ١٩٢).(٣) (جُرُزًا): أَي: أَرْضًا غَلِيظَةً لَا تُنْبِتُ شَيئًا.قَالَ فِي لِسَانِ العَرَبِ (٥/ ٣١٧): "أَرْضٌ جَارِزَةٌ: يَابِسَةٌ غَلِيظَةٌ يَكْتَنِفُهَا رَمْلٌ أَو قَاعٌ".(٤) تَفْسِيرُ البَغَوِيِّ (٨/ ٣٩).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute