الرابعة بعد الأربعين: قال بعضهم: بينما أنا أمشي في البرية إذا رأيت فقيرًا حافي القدمين حاسر الرأس عليه خرقتان مؤتزر بواحدة مرتد بالأخرى ليس معه زاد ولا ركوة. فقلت في نفسي: لو كان مع هذا ركوة وحبل، إذا رأى الماء توضأ وصلى، كان خيرًا له.
ثم لحقت وقد اشتدت الهاجرة فقلت له: يا فتى لو جعلت هذه الخرقة التي على كتفك على رأسك تتقي بها حر الشمس، كان خيرًا لك فسكت ومشى، فلما كان بعد ساعة قلت: أنت حاف إيش ترى في نعليَّ تلبسها ساعة، وأنا أخرى قال: أراك كثير الفضول، ألم تكتب الحديث؟
قلت: بلى.
قال: فلم تكتب حديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"(٢).
فسكت ومشينا فعطشت ونحن على ساحل البحر فالتفت إليَّ وقال: أنت عطشان؟ فقلت: لا.
فمشينا ساعة وقد كظني العطش، ثم التفت إليَّ فقال: أنت عطشان؟
فقلت: نعم، وما معي في مثل هذا الموضوع ماء.
فأخذ الركوة مني ودخل البحر فغرف وجاءني وقال: اشرب، فشربت ماء أعذب من ماء النيل وأصفى لونًا، وفيه حشيش.
وما أحسن من قال:
إذا وردوا الأطلال تاهت بهم عجبًا … وإن لم عودا وهي غضة رطبًا
وإن وطئوا يومًا على ظهر صخرة … لأنبتت الصماء من وطئهم عشبًا
وإن وردوا البحر الأجاج لشربه … لأصبح ماء البحر من ريقهم عذبًا
= توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر، ثم لم يوئيسهم من رحمته ولم يقنطهم من عائدته فقال: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾. [تفسير ابن كثير (١/ ٢٨٧)]. (١) سورة الشورى (٢٥). (٢) أخرجه الترمذي في سننه (٢٣١٨). كتاب الزهد، باب (١١) يلي باب - فيمن تكلم بكلمة يضحك بها الناس، وابن ماجه في سننه (٣٩٧٦) كتاب الفتن ١٢ - باب كف اللسان في الفتنة، وبها بهامش ابن ماجه: أي من جملة محاسن إسلام الشخص وكمال إيمانه تركه ما لا يعنيه، وعبد الرزاق في مصنفه (٢٠٦١٧)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (١٠/ ١٧١).