ومن الأدلة لنا أن لله أن يفرض على عباده ما لا طاقة لهم به قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ}(١)، ففرض الله على المؤمنين أن يقاتلوا الكفار على الإطلاق والعموم أي (٢) عدد كانوا، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً} وهذا أمر بلفظ الخبر (٣)، فأمر الواحد بقتال العشرة ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ}(٤)، فخفف الله عنهم وأمر الواحد بقتال الاثنين. والدليل على أنه أمر أن خبر الله لا يكون بخلاف مخبره، وقد يكون الواحد منهم يغلب العشرة منا (٥)، وأيضاً فإنه قال:{الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} والتخفيف لا يكون إلا فيما فرض وألزم (٦).
فأجاب المخالف القدري عن هذا وقال: هذا لا حجة فيه للمستدل بل الحجة عليه، لأنه لم يكلفهم إلا ما كانوا يستطيعونه في ذلك الوقت فلما علم ضعفهم فيما بعد خفف عنهم.
والجواب: أن الصحابة الذين نزل فيهم {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} هم الذين نزلت فيهم الآيتان الأوليان وحالتهم واحدة في قوة
(١) الأنفال آية (١٥). (٢) (أي) ليست في - ح-. (٣) هذا أمر بلفظ الخبر ولكن فيه أيضاً وعد بشرط والوعد هو الغلبة والشرط هو الصبر. انظر: تفسير القرطببي ٨/ ٤٤. (٤) الأنفال آية (٦٥ - ٦٦). (٥) هذا صحيح أن خبر الله لا يقع مخبره، وإذا وجد الشرط وهو الصبر لا يتخلف الوعد وهو الغلبة إذ هي بيد الله عزوجل. (٦) في - ح- (التزم).