٢ - وَأَمَّا قَولُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا رَمَيتَ إِذْ رَمَيتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيهِم أَيضًا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَضَافَ الرَّمْيَ إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ، لَكِنَّ الرَّمْيَ فِي الآيَةِ لَهُ مَعْنَيَانِ:
أ- رَمْيُ الشَّيءِ المَرْمِيِّ؛ وَهُوَ فِعْلُ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي أَضَافَهُ اللهُ إِلَيهِ.
ب- إِيصَالُ المَرْمِيِّ إِلَى أَعْيُنِ الكُفَّارِ الَّذِينَ رَمَاهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِالتُّرَابِ يَومُ بَدْرٍ فَأَصَابَ عَينَ كُلِّ وَاحِدٍ مَنْهُم، وَهَذَا مِنْ فَعْلِ اللهِ، إِذْ لَيسَ بِمَقْدُورِ النَّبِيِّ ﷺ أَنْ يُوصِلَ التُّرَابَ إِلَى عَينِ كُلِّ وَاحِدٍ مَنْهُم (١) (٢).
(١) قَالَ الإِمَامُ البَيهَقِيُّ ﵀: "بَابٌ: القَولُ فِي خَلْقِ الأَفْعَالِ، قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيءٍ﴾ [غافر: ٦٢] فَدَخَلَ فِيهِ الأَعْيَانُ وَالأَفْعَالُ مِنَ الخَيرِ وَالشَّرِّ" ثُمَّ أَورَدَ مَجْمُوعَةً مِنَ الأَدِلَّةِ إِلَى أَنْ قَالَ: "فَثَبَتَ أَنَّ الأَفْعَالَ كُلَّهَا -خَيرَهَا وَشَرَّهَا- صَادِرَةٌ عَنْ خَلْقِهِ وَإِحْدَاثِهِ إِيَّاهَا؛ وَلِأَنَّهُ قَالَ: ﴿فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيتَ إِذْ رَمَيتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأَنْفَال: ١٧]، وَقَالَ: ﴿أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ [الوَاقِعَة: ٦٤] فَسَلَبَ عَنْهُمْ فِعْلَ القَتْلِ وَالرَّمْيِ وَالزَّرْعِ مَعَ مُبَاشَرَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَأَثْبَتَ فِعْلَهَا لِنَفْسِهِ لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ المَعْنَى المُؤَثِّرَ فِي وُجُودِهَا بَعْدَ عَدَمِهَا هُوَ إِيجَادُهُ وَخَلْقُهُ، وَإِنَّمَا وُجِدَتْ مِنْ عِبَادِهِ مُبَاشَرَةُ تِلْكَ الأَفْعَالِ بِقُدْرَةٍ حَادِثَةٍ أَحْدَثَهَا خَالِقُنَا ﷿ عَلَى مَا أَرَادَ، فَهِيَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ خَلْقٌ -عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي اخْتَرَعَهَا بِقُدْرَتِهِ القَدِيمَةِ- وَهِيَ مِنْ عِبَادِهِ كَسْبٌ -عَلَى مَعْنَى تَعَلُّقِ قُدْرَةٍ حَادِثَةٍ بِمُبَاشَرَتِهِمُ الَّتِي هِيَ أَكْسَابُهُمْ-". الاعْتِقَادُ (ص ١٤٢).(٢) قُلْتُ: وَمِنْ هَذَا البَابِ مَا يُتَنَاقَلُ عَلَى لِسَانِ العَامَّةِ فَضْلًا عَنِ الخَاصَّةِ مِنْ أَنَّهُم يَنْسِبُونَ أَفْعَالًا قَامَتْ بِالعِبَادِ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَقَولِ المَرِيضِ: (شَفَانِي اللهُ تَعَالَى) بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ تَعَاطَى عِلَاجَ الطَّبِيبِ، وَمِثْلُ أَنْ يَقُولَ: (أَعْطَانِي اللهُ هَذَا المَالَ) مَعَ أَنَّهُ وَرِثَهُ أَو كَسِبَهُ مِنْ عَمَلٍ أَو تِجَارَةٍ وَنَحْو ذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ فِي سِيَاقِ إِظْهَارِ نِعْمَةِ المُنْعِمِ بِذَلِكَ وَهُوَ اللهُ ﵎، وَلَا يَخْفَى أَنَّ عِلَاجَ الطَّبِيبِ إِنَّمَا أَخَذَ أَثَرَهُ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، بَلْ طِبُّ الطَّبِيبِ إِنَّمَا كَانَ بِتَعْلِيمِ اللهِ تَعَالَى لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النَّحْل: ٧٨]، وَأَيضًا هِبَةُ المَالِ أَو كَسْبُهُ فِي التِّجَارَةِ إِنَّمَا تَمَّ بِتَعْلِيمِ وَتَيسِيرِ اللهِ لِهَذَا المَالِ إَلَى أَنْ يَقَعَ فِي يَدِ ذَلِكَ التَّاجِرِ أَوِ الوَارِثِ أَوِ الكَاسِبِ، كَمَا فِي قَولِهِ تَعَالَى: ﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ [النُّور: ٣٣].
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute