وَالشِّعْرُ لَهُ أسْبَابٌ:
مَتَى خَلَا مِنْ وَاحِدٍ منها كان كَالحَيَوَانِ الَّذِي عَابَهُ نَقْصٌ فِي خِلْقَتِهِ، وَشَانَهُ فَقْدُ شَيْءٍ مِنْ أَعْضَاءِ صُوْرتهِ. أوَّلُهَا فَصَاحَةُ اللَّفْظِ، وَإِبْدَاعُ المَعْنَى؛ لأنَّ الشِّعْرَ لَفْظٌ وَمَعْنًى، فَاللَّفْظُ جِسْمُ الحَيَوَانِ، وَالمَعْنَى رُوْحُهُ وَنَفْسُهُ، وَفَصَاحَةُ اللَّفظِ نُعُوْمَةُ ذَلِكَ الجِسْمِ، وَحُسْنُ بَشَرَتِهِ، وَصفَاءُ لَؤْبهِ.
وَإِبْدَاعُ المَعْنَى شَرَفُ تِلْكَ النَّفْسُ، وَكَمَالُهُا وَزَهْوُهَا. وَكَمَا أنَّ الجِسْمَ بِغَيْرِ رُوْحٍ لَا يُوْجَدُ بِهِ حَرَكَة وَلَا عَقْلٌ، وَالرُّوْحَ بِغَيْرِ جِسْمٍ لَا يُدْرَكُ لَهَا مَلَكَةُ وَلَا فِعْلٌ، فَكذَلِكَ الشِّعْرُ، لَا يَصحُّ إلَّا بِاجْتِمَاع اللَّفْظِ وَالمَعْنَى فِيْهِ مِنْ غَيْرِ انْفِرَادِ أحَدهُمَا عَنِ الآخَرِ. وَإذَا كَانَتْ الفَصاحَةُ مُسَلَّمَةً إلَى العَرَبِ ---- مِنْ إبْدَاعِ المَعْنَى، وَجَزَالَةِ اللَفْظِ، وَالحِذْقِ بِصنَاعَةِ الشِّعْرِ -- حَقُّهُمْ، وَلَا يُنْكَرُ سَبْقُهُمْ. وَأنَا لَا أُسَلِّمُ إلَى المُتَقَدِّمِ إِذَا جَاءَ بِالرَّدِيْءِ مِن شِعْرِهِ لِتَقَدُّمِهِ، وَلَا أبْخَسُ المُتَأخِّرَ حَقَّ الفَضِيْلَةِ لِتَأخُّرِهِ اقْتِدَاءً بِالمئَلِ السَّائِرِ، المُنْجِدِ الغَائِرِ، المُحْكَمِ الأَوْصَافِ، الكَامِلِ العَدْلِ وَالإنْصَافِ، وَهُوَ قَوْلُ أمِيْرِ المُؤْمِنِيْنَ عَلِيّ بن أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا تَنْظُرْ إلَى مَنْ قَالَ، وَانْظُرْ ما قال.
فَالفَصَاحَةُ فِي اللَّفْظِ كَالأَبْيَاتِ الَّتِي يَرْوِيْهَا النَّاسُ لِلفَرَزْدَقِ (١): [من الطويل]
(١) قَدْ قِيْلَ: إنَّ هَذِهِ الأَبْيَاتَ لِلأَخْطَلِ بنِ غَالِبٍ المُجَاشِعِيُّ أَخِي الفَرَزْدَقَ وَهُوَ الأَصَحُّ لأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ وَكَانَ الأخْطَلُ هَذَا شَاعِرًا فَحْلًا طَوِيْلَ اللِّسَانِ كثيْرَ المَحَاسِنِ فَكَسَفَهُ الفَرَزْدَقُ فَانْطَوَى فَضْلهُ:وَمِنْ فَصِيْحِ الشِّعْرِ مِنْ هَذَا البَابِ قَوْلُ الصَّمَّةِ بن عَبْدُ اللَّهِ بن طُفَيْلٍ القُشَيْرِيُّ (١):وَبِالأَجْرَعِ الأَقْصَى الَّذِي أَنْبَتَ الغَضَا ... جَاءَ ذِرُّ أَعِيَا صَيْدُهَا كُلُّ صَائِدِوَمَرْعًى أَنِيْقٌ غَيْر دَانٍ مرَادُهُ ... وَمَاءٌ نَمِيْرٌ غَيْرُ سَهْلِ المَوَارِدِألا بِأَبِي العَيْشُ الَّذِي كَانَ لِي ... زَمَانَ الصِّبَى لَكِنَّهُ غَيْرُ عَايِدِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute