ولهذا لم يتمدَّح بعدمٍ محضٍ لا يتضمَّن أمرًا ثبوتيًّا، فإنَّ المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العَدم، ولا يوصف الكامل بأمرٍ يشترك هو والمعدوم فيه.
فلو كان المُراد بقوله:{لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} أنَّه لا يُرى بحالٍ: لم يكُن في ذلك مَدحٌ ولا كمال، لمشاركة المَعدوم له في ذلك، فإنَّ العَدم الصِّرف لا يُرى ولا تدركه الأبصار! والرَّب جل جلاله يَتعالى أن يُمدَح بما يشاركه فيه العَدم المَحض.
فإذن المعنى: أنَّه يُرَى ولا يُدرك ولا يُحاط به .. » (١).
فالآية على هذا دالَّة على كمالِ عظمتِه سبحانه، وهو لعظمتِه أجَلُّ وأكبر وأوسع من أن يُدرَك ويُحاط به، فإنَّ (الإدراك) هو الإحاطة بالشَّيء، وهو بذا قدْر زائدٌ على الرُّؤية، والنَّفي في الآية الكريمة ورد على الرُّؤية المحيطة، لا جنسَ الرُّؤية، فهو يُرى بلا إدراكٍ له.
نظير ذلك ما في قوله تعالى:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}[طه: ١١٠]، والمَعنى: يحيطُ بهم علمًا، لأنَّه يَعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، وهم لا يحيطون به عِلمًا، وإن كانوا يَعلمون عنه ما أَذِن الله به، لأنَّ إحاطةَ المُحاط به بالمحيطِ مُحالٌ (٢).
فكلا الآيتين جارٍ على قاعدةٍ معروفةٍ في اللُّغة: أنَّ النَّفيَ إذا وَرَد على مُقيَّدٍ
(١) نقله عنه ابن القيم في «حادي الأرواح» (ص/٢٩٣). (٢) انظر «جامع البيان» للطبري (٩/ ٤٥٩).