ذَكَّرْنَاكُم وَأَمَرْنَاكُم بِتَوحِيدِ اللهِ وَإِخْلَاصِ العِبَادَةِ لَهُ؛ قَابَلْتُمُونَا بِهَذَا الكَلَامِ وَتَوَعَدْتُمُونَا وتَهَدَّدْتُمُونَا! بَلْ أَنْتُم قَومٌ مُسْرِفُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَي إِنْ ذَكَّرْنَاكُم بِاللهِ تَطَيَّرْتُم بِنَا! بَلْ أَنْتُم قَومٌ مُسْرِفُونَ" (١).
- وَجْهُ الدِّلَالَةِ مِنَ الآيَةِ الكَرِيمَةِ أَنَّ التَّطَيُّرَ هُوَ مِنْ صِفَاتِ المُشْرِكِينَ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ، وَكَمَا قَالَ قَومُ صَالِحٍ لَهُ: ﴿اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾ [النَّمْل: ٤٧].
فَيُسْتَفَادُ مِنَ الآيَتَينِ المَذْكُورَتَينِ فِي البَابِ: أَنَّ التَّطَيُّرَ كَانَ مَعْرُوفًا مِنْ قِبَلِ العَرَبِ وَمِنْ غَيرِ العَرَبَ، لِأَنَّ الأُولَى فِي فِرْعَونَ وَقَومِهِ، وَالثَّانِيَةَ فِي أَصْحَابِ القَرْيَةِ.
- قَولُهُ: ((لَا عَدْوَى)) أَي: لَا عَدْوَى مُؤَثِّرَةٌ بِطَبْعِهَا وَنَفْسِهَا، وَإنَّمَا تَنتَقِلُ العَدْوَى بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى، وَأَهْلُ الجَاهِليَّةِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ العَدْوَى تَنْتَقِلُ بِنَفْسِهَا؛ فَأَبْطَلَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا صِحَّةَ ذَلِكَ الاعْتِقَادَ (٢).
- قَولُهُ: ((وَلَا طِيَرَةَ)) المَنْفِيُّ هُنَا لَيسَ هُوَ وُجُودُ الطِّيَرَةِ؛ لِأَنَّ الطِّيَرَةَ مَوجُودَةٌ مِنْ جِهَةِ اعْتِقَادِ النَّاسِ (٣) وَمِنْ جِهَةِ اسْتِعْمَالِهَا، وَلَكِنَّهَا مَنْفِيَّةٌ مِنْ جِهَةِ صِحَّتِهَا، وَكَذَلِكَ
(١) تَفْسِيرُ ابْنِ كَثِيرٍ (٦/ ٥٧٠).(٢) قَالَ البَيهَقِيُّ ﵀ فِي السُّنَنِ الكُبْرَى (٧/ ٣٥١): "بَابُ لَا عَدْوَى عَلَى الوَجْهِ الَّذِي كَانوا فِي الجَاهِلِيَّةِ؛ يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ إِضَافَةِ الفِعْلِ إِلَى غَيرِ اللهِ".وَأَمَّا قَولُ صَاحِبِ فَتْحِ المَجِيدِ ﵀ (ص ٣٠٧): "وَالمَنْفِيُّ: نَفْسُ سِرَايَةِ العِلَّةِ أَو إِضَافَتُهَا إِلَى العِلَّةِ. وَالأَوَّلُ هُوَ الظَّاهِرُ".قُلْتُ: الظَّاهِرُ هُوَ الثَّانِي. وَيُنْظَرُ شَرْحُ الشَّيخِ الغُنَيمَانِ حَفِظَهُ اللهُ عَلَى كِتَابِ (فَتْحُ المَجِيدِ)، شَرِيطُ رَقَم (٧٩)، شَرْحُ البَابِ. وَسَيَأْتِي الكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي المَسَائِلِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.(٣) وَفِي حَدِيثِ مُعَاوَيِةَ بْنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّ؛ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ ﵊ عَنِ الطِّيَرَةِ، فَقَالَ لَهُ: ((ذَاكَ شَيءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُم فِي صَدْرِهِ فَلَا يَصُدَّنَّكُم)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ (٥٣٧)، فَأَخْبَرَ أَنَّ تَأثيرَهُ وَتَشَاؤمَهُ بِالطَّيرِ إِنَّمَا هُوَ فِي نَفْسِهِ وَعَقِيدَتِهِ؛ لَا فِي المُتَطَيَّرِ بِهِ! فَوَهْمُهُ وَخَوفُهُ وَإِشْرَاكُهُ هُوَ الَّذِي يُطَيِّرُهُ وَيَصُدُّهُ لِمَا رَآهُ وَسَمِعَهُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://mail.shamela.ws/page/contribute